للقلب والروح :
قيل أن سلطاناً بقوم ففزُوا له واقفين إلا عتالاً أطبق البؤس على محياه فبدا وكأنه مغيب في دنيا أخرى..فسأله السلطان ما خطبك يا هذا؟! فأجاب ” الفاقة يا مولاي.. الفاقة التي ولدت معي وسأموت معها !!” سارع الحراس لرفس العتال عقاباً له على رعونة رده على السلطان إلا أن السلطان أوقفهم ونظر للعتال الشعث المغبر قائلاً: سأغير قدرك لأني شئت؛ ولأني قادر.. كل تلك الأراضي والعِزب التي تراها على مد ناظرك ملكي أنا؛ وسأهبك منها ما تريد !!
وأمام صدمة العتال الذي برقت الدهشة في عينيه؛ رسم السلطان بصولجانه خطاً، وأردف: ستبدأ أرضك من هذا الخط – وأركض بكل قوتك- فأينما وقفت قدماك فهي نهاية ملكك الجديد .!!
سويعات صمت مرت على العتال وكأنها الدهر؛ فوكزه أحد الحراس صارخاً اركع وأشكر السلطان على كرمه البالغ.. ولكنه لم يفعل بل بدأ في العدو.. جرى بكل قوته.. جرى وهو يتذكر الحرمان والطفولة المعذبة.. وهو يتذكر ليالي الجوع التي سيودعها دون عودة.. أطلق رجليه للريح حتى بهتت ضوضاء السلطان والحراس، بل وبهتت الدنيا من حوله.. تسلل له التعب وثقُلت رجلاه وكاد أن يقع من الألم لولا أنه قال في نفسه بضعة أمتار بعد، وكان كلما تجاوز الأمتار التي منى نفسه بها استزاد قليلاً ؛ وظل كذلك.. حتى سقط ميتاً من فرط الإعياء!!
تلك القصة هي أحدى قصص طاغور – حكيم الهند العظيم – نقلتها لكم بتصرف يخدم ما نريد قوله اليوم.. وبالمناسبة وقعت تلك القصة فعلاً – بتفاصيل مختلفة- لعداء كيني في إحدى المارثونات العالمية إذ ركض حتى توقف قلبه ومات !! فللقلب طاقة لا يصح تجاوزها.. وإن تجاوزتها فقلبك ينذرك بإشاراته؛ فإن أنت ما تجاهلت الإشارات غامرت دون إرادة منك.. بتوقفه !!
فكم واحد بيننا يشبه هذا العتال ؟!
يركض في الدنيا طالباً المزيد، فإن ناله طلب الاستزادة..!! كم واحد منكم تجاوز ما غزا جسده من إعياء، وما تملك نفسه من ضجر وسأم وواصل العدو غير عابئ بالجرم الذي يرتكبه في حق نفسه !!
للحياة إغراء غريب ذو منطق مخادع.. هناك بريق ما في الظمأ.. يسميه البعض طموحاً، ولكنه واقعاً جشع وحمق.. وكثيراً ما يكون هروباً.. فالخائف يركض بلا تفكير لأنه يخاف الوقوف.. يخاف الحياة.. يخاف إن توقف من مواجهة نفسه.. وأي أمر في الحياة أصعب من أن يتواجه المرء مع نفسه!!
هذا الجري.. هذا العدو الذي لا يهدأ؛ يستلُ السعادة من القلب.. ويقصِر ساعات اليوم، ويأكل سنينَ العمر – بل- ويخنق السعادة إذ يتلاشى الرضا بتحقيق حلم – سريعاً- لوجود مطلب آخر وحلم جديد.. هذا التطلع الدائم.. هذا الزهد المطلق بما نملك؛ وهذا التوق المستمر لما لا نملك .. يورث أيضا القلق الدائم.. ويجعل الحياة رحلة مضنية حتى إذا ما حان وقت الراحة والتقاط الأنفاس، وجد المرء نفسه ركاماً من الأمراض والآلام والندوب .. فتتحول المرحلة التي – يُفترض- بها أن تكون مرحلة استرخاء؛ لمرحلة استحقاق؛ ندفع فيها فاتورة السنوات الماضية بكل ما فيها من إهمال للذات والصحة والأحباب .!!
نؤيد الطموح بالطبع؛ ولكننا نحذر من تجاوز الشعرة التي تفصله عن الطمع الذي يمحق العمر. يقول نبينا الكريم (ص) لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً.. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا.. التراب ”
فلا تكونوا كذلك العتال.. الذي ركض.. فركضت منه الحياة..!!