:للفكر
في طفولتنا لم تكن هناك دولة خليجية تملأ الدنيا ضجيجا وفناً وإبداعاً كالكويت.. ريادتها في المجالات كافة جعلتها محط أنظار العرب قبل الخليجيين.. فالفن – تلك اللغة العالمية التي تصرع أبجديات اللغة- كان يأتينا من بوابة الكويت.. كان المسرح ميدان عبد الحسين والفرج وسعاد عبدالله وعبد العزيز الهزاع والنفيسي.. كنا ننتظر أوبريتات غريد الشاطئ وشادي الخليج وسناء الخراز.. في الرياضة؛ وحده الأزرق من كان يلعب في الساحة ويخطف الكؤوس والميداليات.. كانت مجلات كالعربي وسعد والنهضة واليقظة مراسيلنا للعالم العربي وعيوننا للعالم.. لم نر أديبات وشاعرات حينها إلا ليلى العثمان وسعاد الصباح.. كانت الكويت البلد الخليجي الوحيد الذي حظي ببرلمان وسقف حرية عالً وصحافة مستقلة سليطة تقارع ولا تهادن.. كانت الكويت منار الثقافة والإبداع والفن والأدب .. كويت أحمد بشر الرومي وعبد العزيز المساعيد وعبدالله السالم الصباح وسامي المنيس والنيباري
والرميحي ..
في السنوات الأخيرة رأينا الكويت الجميلة تذوي.. نعيق غربان الإسلام السياسي أسكت أصوات الإبداع .. العقول القمعية قولبت أجيالاً فلم تعد ترى في الصورة إلا بعداً واحداً.. اضمحلت الثقافة وواجه المتنورون والليبراليون حرباً إقصائية حرمتهم من التمثيل الحقيقي في البرلمان والمواقع القيادية في الجمعيات ..!! حتى الفكر العقائدي المتوازن تقهقر لصالح فكر التخلف والتشنج والتأزم..
وبعد أن كانت الكويت منقسمة طبقياً وعرقياً تولدت انقسامات جديدة/ إضافية أدت إلى تشظي المجتمع بشكل أكثر شدة وحدَة !! بدأت النعرات الطائفية تطفو على السطح وتهيمن على المشهد العام وانشطرت الطبقات على نفسها.. وحفرت الأحقاد قبور التسامح والوحدة .. وصرنا نتخوف على الكويت أن تغدو لبنان ثانية أو تتحول لبيشاور – كما يسعى لها البعض أن تكون- بعد أن كانت جوهرة الخليج وقلبها النابض !!!
رياح السياسة لم توافق مناخ الكويت فعكرته ووترته .. ” كل شيء توقف، المشاريع توقفت والتطوير توقف” كما قال أمير الكويت عشية حله لمجلس الأمة قبل عامين.. فتشكيل خمس حكومات منذ فبراير 2006 إلى اليوم ليس بالأمر الهين..وحل مجلس الأمة لأربع مرات والدعوة في كل مرة لانتخابات مبكرة تشعل الأجواء وتنفق فيها ملايين الملايين ليست بالأمر الهين أيضا.. غابت العقلانية والحكمة.. وشاعت الفوضى وسوء النية.. حالة احتقانية تدمي القلب بالفعل.. قلب من يحب الكويت الجميلة التي اختطفتها السياسة والجماعات الإسلامية الشرسة من نفسها.. !!
إننا – وإن كنا نألم لما يجري في الكويت- فإنا نرى في تجربتها مثالاُ شاهداً شاخصاً لنا ونحن ندير ديمقراطيتنا الفتية.. فالديمقراطية قد تغدو وبالا إن لم تتواكب مع زرع قيم ومبادئ ثابتة في ضمائر الشعب والسياسيين.. الديمقراطية هي طريقنا لبناء مجتمعات عصرية عبر الحوار الوطني إلا لو استخدمناها لتنفيذ مصالح فئوية وفرض رؤى ضيقة على حساب المصالح العليا للبلاد..
الدرس الكويتي درس ماثل لكل ديمقراطية ناشئة .. درس عن خطر تمكين الاعتبارات القبلية، طائفية، الأصولية الإثنية وتركها لتتحكم في صناديق الاقتراع.. فمن يعتلي الكرسي لاعتبارات كهذه لا يملك خياراً إلا العض بالنواجذ على خيار الجماعة على حساب الاعتبارات الوطنية الأخرى..
حفظ الله الكويت ونجاها من فك الديمقراطية المشوهة.. وجنبنا وإياكم هذا المصير..