:للفكر

في فترة ما – واخالها السبعينات ومطلع الثمانينات- كان الزواج بين أبناء المذاهب المختلفة رائجاً سيما في صفوف الطبقة المثقفة .. لم يكن الأمر “big deal” فالعقول حينها لم تكن متمترسةً داخل أسوار الطائفة ولم تكن الغطرسة المذهبية قد استبدت بالعقول وكان المجتمع أكثر تناغماً وتصالحاً مع نفسه .. كان الاختلاف مبعث احتفاء.. وكان للتسامح والتآخي حضور مكثف يتحصن بقوة العرف والسليقة النقية.
كانت مجتمعاتنا – باختصار- أكثر تسامحاً واقل تعصبا ربما ، ربما نقول، لأنه موجة الإسلام السياسي المزيف لم تكن قد نالت من الضمائر بعد !! وسأسوق قضيةً باشرتها مؤخراً كنموذج: شابة تعلق قلبها بزميل من غير مذهبها فعاشت ملحمًة مع والدها المتزمت ، الذي يحمل درجة الدكتوراه للعجب ، على مدار 5 سنوات انتهت بهروبها من المنزل وزواجها دون رضاه !! الوالد لم يترض�’ الصفعة ؛ ولم يُطفئ طردها من المنزل وإجبار الأسرة على مقاطعتها نيرانه؛ فلجأ للقضاء طالباً تفريقهما والمفارقة أن المحكمة استجابت؛ مع إلزامه بإعادة بتزويجها – مجدداً- خلال شهر؛ ولكن الوالد لم يلتزم بالطبع تاركاً الفتاة عالقًة تنتظر عدالة الأرض ومد�’د السماء..!!قضايا كهذه لم تطفو للسطح إلا في العقدين الأخيرين وألوم ، مجدداً ، الإسلام السياسي عليها.. فالتدين الحقيقي يخلق شخصية معتدلةً أكثر عمقا ورحمة وإنسانية؛ أو هكذا يُفترض به أن يفعل. أما “التدين السياسي” فينزع بالناس للتشدد الأعمى والتخلف والقبلية والطائفية.. فثلةً المتنفعين منه؛ حرصوا على تفخيخ الضمائر بقناعات ضربت أعماق المجتمع وزلزلت أركانه..!!في العراق مثلاً–  وحتى السنوات العجاف الأخيرة – كانت الزيجات المختلطة تمثل أكثر من ثلث المجتمع؛ وكان هناك أكثر من مليوني أسرة مختلطة موزعين بطول بلاد الرافدين وعرضها. اليوم؛ وفي ظل تفجر النزعة الطائفية والسعار القبلي والعرقي ، شهدت تلك النوعية من الزيجات تراجعاً مخيفاً بل وبتنا نسمع عن حالات طلاق قسرية وقعت في السنوات الخمس الماضية.. ما حذا بطارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي الأسبق للإعلان عن منحة مقدارها 1500 دولار للعروسين من مذهبين مختلفين ، كنوع من التشجيع على تلك الزيجات، لما لها من دور من رأب الصدع الاجتماعي المتولد من الشد المحتدم بين الطائفتين هناك. ولا ندري إلى أي مدىً نجحت الـ1500 دولار في إطفاء ما أشتعل في القلوب من غطرسة متقيِ�’حٌة من الداخل بفكر ملتبسً وأرث مشوش..!! مؤخراً أعلن أحد الجهابذة في دولة خليجية من منبره أنه على استعداد لإبطال أيِ�’ عقد زواج بين سني وشيعية – والعكس- وإن كان بينهما أطفال.. ربما لأنه لم يسمع بقوله تعالى ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم” أو لربما ظن أن الله جعلنا ” شعوباً وقبائل” لنتعالى على بعضنا ونتناحر لا ” لنتعارف” كما تقول الآية الكريمة..!!

نقول.. التركيبة الفسيفسائية في مجتمعاتنا قد ازدادت تلوناً وتباينا ومن الطبيعي – جداً- أن تتلاقح الأنساب وتختلط – بل ومن المحمود أن تفعل- لما في ذلك من ضمانة لانسجام المجتمع وانصهاره.. وعلينا أن نقاوم في مجتمعاتنا تلك النزعة الخرقاء لتضخيم الفروقات وتسطيح ما يجمعنا لحفر خنادق داخل المجتمع تفصل البشر وتعرقل العلاقات الإنسانية المشرعة..والويل ثم الويل لمجتمع تقوده العقليات المتحجرة التي تعتصم بالباطل؛ وتأكل كبد الحق والدين..