:للوطن

في مجتمع مدني قوامه 450 جمعية ومؤسسة سياسية، ثقافية، حقوقية وخيرية لا يبدو أننا نفعل الكثير.. فعدد الجمعيات يشي للناظر من بُعد أن المجتمع المدني في البحرين يمثل بذاته سلطة أو هيمنة على مفاصل المشهد العام أو يملك -على أقل تقدير- مفاتيح يدير بها عجلة التغيير.. ولكن الواقع لا يشبه الظن.. فسياسية الإغراق الحكومية، التي تنتهجها بذكاء لضرب السلطات المدنية، قد أتت أكلها في إعاقة حراك تلك المؤسسات عبر شرذمة جهودها وتشتيت قواها وطاقاتها. 
في الثمانينات ومطلع التسعينات كان العمل التطوعي في البحرين مركزاً خالص النوايا.. لاحقاً؛ مع بداية العهد الإصلاحي توالدت الجمعيات واللجان كالجراد، وكثيرون تحولوا لناشطين دونما سابق إشعار على أمل أن يقودهم ذلك إلى كراسي التمثيل البلدي أو النيابي.. وقد تكفلت شائعة -انتشرت آنذاك- مفادها أن رؤساء الجمعيات الأهلية سيخصون بمقاعد في مجلس الشورى بتزاحم الطامحين للظهور على الواجهة.. فلما تبين بعد سنوات أن «إيمان» المرء ولحيته هو ما يوصله لقبة البرلمان؛ تراجعت تلك الموجة تاركةً شطراً كبيراً من الجمعيات بلا ولي ولا معين.. ولم تعد الجمعيات والصناديق تجد من يحضر فعاليتها ناهيكم عن العمل والمشاركة فيها.

لقد شلت الجمعيات بكثرتها.. وبات نصفها اليوم عنواناً لا كتابة تحته.. أو لمجالس وألقاب مجردة من أي نشاط.. وزاد الطين بلة اليد الحديدية التي أطبقت على موارد الجمعيات والصناديق وجففت منابعها لطغيان الهاجس الأمني على سواه.. فالتبرعات والمساعدات مطوقة بسياج من الريبة. وها هي وزارة التنمية تجاهد لدفع الصناديق لحل نفسها والتحول لجمعيات خيرية ليسهل ذلك الهيمنة عليها والتدخل في كل صغيرة وكبيرة متعلقة بها.. فمن قرأ منظومة القوانين التي تحكم الجمعيات الأهلية يهالهُ كم السطوة التي منحها القانون للجهة الرسمية المسؤولة في التحكم بالجمعيات وهتك خصوصيتها.. وإن أضفنا لذاك حقيقة أن الأعضاء هاهنا لا يدفعون اشتراكاتهم إلا فيما ندر.. فللقارئ أن يرسم هنا صورة عن قتامة الوضع وترديه. النقابات والجمعيات المهنية بدروها تعاني -إذا كانت مستقلة كجمعية التمريض على سبيل المثال- من حروب سلطوية الهوى رسمية الهوية. وتعاني من وجود المندسين بين صفوفها ومن الحروب المفتعلة ومن الأيدي التي تمتد للسيطرة عليها.. الجمعيات السياسية أفضل حالاً من غيرها لأن الحكومة «غسلت» يدها منها وما عادت تحاول اختراقها من الداخل بيد أن جهود ضربها من الخارج على قدم وساق.

الدعم الحكومي موجود، عبر وزارة العدل، ويتراوح بين الـ 500 إلى 1500 دينار للجمعيات التي يزيد عددها عن الـ 300 عضو ولكنه يتبع بالمن�’ والأذى. فوزارة العدل قد سنت بنداً غريباً يقضي بوقف الإعانة للجمعيات التي لا تنجح في إيصال مرشح للمقاعد البرلمانية أو البلدية وهو ما سيضع جُل الجمعيات -عدا مجموعة تعد بأصابع اليد- في موقف جد حرج في الفترة المقبلة.

وفي حين يفرغ الرياضيون والمسرحيون من الموظفين لبعض المشاركات فإن الناشط في الجمعيات محارب في عمله ورزقه.. لا يسمح له باستخدام الهاتف ولا الإنترنت ويحاسب على تصريحاته في الصحف وتفوهاته في المجالس ومواقفه وإن كانت لا تتضارب مع عمله بأي شكل.. فكيف تفعل تلك الجمعيات وتقوم لها قائمة.

إن مؤسسات المجتمع المدني كلها مطالبة بإعادة تشكيل نفسها وفق عمل سياسي منظم. فالشركات المالية الكبرى تندمج للتعملق ومواجهة التحديات فما بالكم بجمعيات ما، يحاصرها ويثبطها أكثر مما يشجعها.. وعلى مؤسساتنا أن تفعل المثل.. تندمج.. تتوحد.. تتخندق.. لا من أجل النماء فحسب.. بل من أجل البقاء..