للقلب والروح :
للغربيين قناعةٌ راسخةٌ أن الحياة تبدأ في الستين.. عندما ينجز المرء مشروعه في الحياة فتتقلص مسؤولياته ويتفرغ لتعويض ذاته عما حرمته منه ضغوط العمل. هي في عُرفهم فترة استجمام ومغامرة واكتشاف لحضارات وثقافات جديدة، لذا تراهم سائحين في الأرض مستمتعين ببهجة الحياة بعد التقاعد حتى أن بعضهم قد يصاحب أو يتزوج زواجاً يسميه البعض زواج مؤانسة؛ لا من سيدات بنصف عمره بالطبع كما نرى هنا؛ بل من سيدات يقاربنه في السن والنضج والتفكير..
فلم نر الكهل في مجتمعاتنا على الدوام بائساً مكفهر الوجه تعلو وجهه مسحة من حزن وكآبة..؟!
نشخص هذه الظاهرة بتحليل الشخصية العربية التي لا تعترف بتقلب الأدوار في الحياة، لذا فإن المرء منا يتشبث بدوره – ذاته- حتى آخر يوم من حياته سيان في ذلك رؤساؤنا الذين يرفضون التقاعد حتى يعانقوا التراب؛ وفنانونا الذين يتشبثون بأدوار البطولة وإن انتهى زمانهم.. بل وحتى الأمهات اللواتي يرفضن فكرة نضوج أبنائهن ويصررن على لعب ذات الدور الذي لعبنه في حياة الأبناء منذ أن كانوا صغاراً.. فالأم عندنا لا ترى نفسها إلا في دور الأم ؛ فإن أقلتها عن هذا الدور وعزلتها عنه ذوت ومرضت.. لأنها ببساطة نسيت كيف تعيش لنفسها وليست مستعدة لتقبل دور جديد في الحياة ولو كان أيسر وأفضل!!
أما رجالنا فهم بين اثنين: من يرفض الاعتراف أن زمانه قد ولى؛ فيواصل روتينه بذات الوتيرة ملزماً نفسه بذات الجهد والمهام التي تحملها فتياً ضاغطاً بذلك على صحته ومستنزفاً نفسه لآخر رمق. وعادةً ما يعتبر هذا الصنف الممتلئ بالاعتزاز الأخرق دعوات اعتزاله إهانة لا يقبلها فتراه يذوي ويعتل إن ما قاعدته وعزلته لأنه باختصار يرى كيانه في عمله.
أما النوع الثاني فيتعاطى مع المرحلة الجديدة على أنها ”تمضية وقت” لحين الموت. فتراه يستيقظ ليصلي ويسلي وقته حتى الغداء ومنه للعشاء لينام مبكراً ويبدأ روتينه المضجر من جديد.
وكلا النوعين ظالمٌ لنفسه.. سواء أذاك الذي يختصر ذاته في عمله حارماً نفسه من اختبار الحياة أو ذاك الذي أنهى حياته بيديه وهو حي..!!
ما لا يفهمه هؤلاء أن الخروج من دائرة العمل لا يعني الخروج من دائرة الحياة. فللمسن والمتقاعد أن يمضي سنواته الجديدة في ممارسة مهنة يهواها كالطبخ أو الأعمال الفنية والحرفية. في الغرب يركز هؤلاء على التطوع للأعمال الخيرية لأنهم يرون مساعدة الغير أهم مزايا مرحلة التقاعد. لذا نجد المؤسسات التطوعية في الغرب تقوم غالباً على أكتاف المتقاعدين.. ولكم في بيل غيتس – أغنى رجال العالم- مثلٌ حي.. إذ تقاعد طواعية بعد أن كان يصرف 16 ساعة من يومه في العمل المضني لأنه وجد أن الوقت قد أزف لطور جديد فانصرف للعمل الخيري الذي منحه الراحة والرضا.. الأمر الذي يثبت أن الإيمان بحتمية التغيير وتبادل الأدوار.. هو خيار الحكماء..
ــــــــــــــــــــــ
رحيق الكلام..
كل فصول الحياة جميلة شريطة أن نتقن التكيف معها بإعادة ترقيم أولوياتنا واهتماماتنا..