اجتماعية ناقدة:  بعد ساعات طوال من البحث وتمشيط القرية، عثر أهالي قرية البلاد القديم على الطفل محمد (سنتان) في ورشة نائماً في إحدى سيارات الخردة!

الأنباء تفيد أنه عاد سليماً معافى، ونسجد لله شكرا على ذلك، فالراصد لحالة التردي الأخلاقي والاجتماعي في البلاد لا يكاد يصدق أن طفلاً يختفي لساعات طوال ويعود سليماً دون أن تطاله مخالب الوحوش الآدمية.
فقبل أيام فقط تناهى إلى مسامعنا خبر تحرش مجموعة شباب بصبية صغار في أحد المتنزهات الترفيهية المائية، حيث يختلط الصغار بالكبار دونما رقيب في وضع لا تؤمن عاقبته ولا تبعاته!

اللافت في الأمر أن الطفل المفقود كان لحظة فقدانه خارج المنزل بعهدة أخته الكبرى البالغة ثلاثة أعوام، أي أنها هي الأخرى ليست في سن يمكن فيه أن تؤتمن حتى على نفسها، فما بالكم بائتمانها على أخيها! ولا أشك أن الندبة النفسية التي ستعاني منها الطفلة ستفوق بمراحل تلك التي ستحتضنها ذاكرة الطفل لكونها هي من عاشت لحظات الصياح والتأنيب والاستجواب وشعرت بنظرات اللوم، ولو كانت غير موجهة لها.

الموقف القميء أعلاه جعلني أستحضر موقفاً شبيهاً صادفته قبل زهاء عام عندما كنت عائدةً من حفل زفاف وسلكتُ طريقا مختصراً ماراً بقرية الماحوز، ففوجئت بطفلين لا يكاد طولهما يناهز ارتفاع المركبة! كانا يسيران في الحي والساعة تناهز الواحدة فجراً!
الواحدة ..! فجراً..! إذ إني ساءلت عيني وأنا مارةً بهما إن كانت تراهما فعلاً.. الطفل، صبي جميل في الثالثة وأخته في الخامسة، كانا يتقاذفان – في قارعة الطريق الخاوي- كرة قماش، سألتهما عن منزلهما وطرقته لدقائق حتى أطل رجل أربعيني – رث�’ الهيئة- بدا وكأنه يكابد لطرد النوم من أجفانه! خاطبته موبخة: أهؤلاء أطفالك؟! كيف تتركهم في هذا الليل خارج المنزل؟ ألا تخشى عليهم الدهس، الاختطاف؟

استغرق دقائق لاستيعاب الموقف، ثم رد ملقيا اللائمة على أمهم التي وصفها ”بالمجنونة” ثم أنحى باللائمة على الأطفال، واصفاً إياهم ”بالجان” لكونهم لا ينامون ويخرجون دائماً دون علمه، بانفعال وحنق لم أُجِـد�’ لكتمانه سبيلا قلت: هذه ليست بذرائع مقبولة، أقفل الباب ودع المفتاح تحت وسادتك، أنت مستأمن على هؤلاء الأطفال وهم في عهدتك، وفي خضم ذلك فتحت والدتهما -التي أيقظها الصوت- النافذة: وبدأا في المشارعة وتبادل اللوم والسباب مع بعضهما، حينها نظرت إلى عين الطفلة ، فوجدتها أكثر مسؤولة من أبويها المستهترين، فجثوت على ركبتي وحذرتها من الخروج دونما رفقة بالغ، وإلا فستسرق هي وأخوها ولن يروا أحداً بعدها، حمَ�’لتها مسؤولية أكبر من عمرها، ولكني قرأتُ في عيني الطفلة ذات السنوات الخمس أنها فهمت ما لم يفهمه والداها!

استحضرت ذلك الموقف في حضرة الموقف الأخير واستعدتُ ذات الأسئلة التي حيرتني’ دائماً: 
إن كان المرء لا يأمن ترك 100 دينار، أو حلق ذهب بعيدا عن ناظريه دون حراسة، فكيف له أن يأمن على طفله الذي لا تقدر سلامته بثمن! لِمَ ينجب هؤلاء أطفالا إن كانوا لا يحفلون بهم وبما قد يصيبهم من ويلات جراء الإهمال؟

إن ما حدث أمس الأول هو مدعاة لنذ�’كر الناس بجلال مسؤوليتهم تجاه أبنائهم حتى يبلغوا أشدهم، وهي مسؤولية يجب أن نتواصى بها ونشدد عليها، فلا الزمان اليوم هو الزمان، ولم يعد الناس هم الناس، ولم تعد البلد هي البلد، فاسمعوا؛ واجلوا الغشاوة من أعينكم، وعوا.