اجتماعية ناقدة:  ربما لأننا ندرك كم هو مجتمعنا طاعن في قسوته، قاسٍ في طعونه.. ربما لأننا نعي – تماماً – أن كثيراً ممن ارتكبوا الجرائم ليسوا بمجرمين بقدر ما هم ضحايا. ربما لأننا نعرف أن البدايات الجديدة ممكنة؛ لذا فإننا لا نملك إلا أن نتعاطف مع السجناء السابقين ونتوجع للطريقة التي يُدفعون بها إلى حظيرة الإجرام مجدداً حتى إذا ما هم عزموا التوبة.
أحمد شاب من هؤلاء الذين لا تملك إلا أن تتعاطف معهم.. في وظيفة أجرها 150 ديناراً عمل رضياً بما أفاءت به الحياة عليه على قلته؛ فلما طُرد من عمله وتكالب رفاق السوء على ضميره تورط في الجريمة تلو الجريمة.. جرائم سرقة ونصب واحتيال أدين في نصفها ودخل السجن وقضى عقوبته وخرج قبل عامين عازماً التوبة وعدم كسر قلب والده من جديد، وحلف أن ينفض عن نفسه وأهله عار الحرام ويدشن في حياته سبيلاً جديداً..

رفض الكثيرون توظيفه، وحتى من قبلوا عادوا عن قراراتهم لعجزهم عن إتمام إجراءات توظيفه بسبب شهادة حسن السيرة التي لا تصدر للسجين إلا بعد مرور 3 سنوات من الإفراج عنه. لم ييأس، عمل في سوق الخُضَر يشتري من بائع ويبيع للمارة.. عمل في بيع السمك لما وجد لذلك سبيلاً.. ضغطت عليه الحاجة فلم يستسلم، ضغط عليه رفاق السوء فقاطعهم.. نبذه المجتمع، وأسمعه الناس في المسجد كلاماً ثقيلاً، لكنه اعتصم ببيت الله ورفض أن يقطعه من أجل كلمات بعض السذ�’ج الذين يجهلون أن خير الخطائين عند الله التوابون.
ضاق عليه الرزق فعمل في تنظيف الفلل لثلاث مرات أسبوعياً بـ 50 ديناراً شهرياً «ليس العمل عيباً، ولكن العيب هو أن أستسلم لحياتي القديمة»، هكذا قال. مر�’ت على توبته سنوات ما عاش فيها يوماً مستقراً؛ لأن شبح الأحكام السابقة مازال يطارده. ناهيك أنه مهدد بالحبس في أية لحظة..

قد تسألون كيف وقد أدى عقوبته؟ والحقيقة أن نظامنا القضائي لا يحكم في القضايا دفعة واحدة.. لذا فإن بعض القضايا التي سجلت عليه في 2002/2003 مازال يُحكم فيها للآن. وعليه، فإنه وبعد أن جاهد لترميم حياته ورتق سمعته، مهدد أن يفاجأ بحكم طازج (في جريمة قديمة) يعيده لقبضة القضبان من جديد.

هذا الشاب هو نموذج لشباب عدة يُدفعون إلى حياض الإجرام – مراراً وتكراراً – بفعل منظومة النظم والقوانين الحمقاء التي تنظر للعقوبة كفعل إيلام وانتقام لا كوسيلة إصلاح وتأهيل.. ففي حين تعمل المؤسسات العقابية المتطورة في العالم على توفير أعمال ومصادر رزق وعقوبات بديلة عن سلب الحرية، نرى أن السجين هاهنا يُحرم – طيلة 3 سنوات – حتى من شهادة حسن السير والسلوك التي تؤهله إلى العمل.. فهل يتوقع المشر�’عون الأفاضل أن يتأبط هؤلاء الكتب والمجلات على مدار ثلاث سنوات من دون أن يعودوا للجريمة سيما أن أغلبهم معوزون وينتمون إلى عائلات معوزة ؟

إن هذا الشاب، وأمثاله، يستحقون التفاتة عالية المستوى من المسؤولين؛ فلا يعقل أن يودع في السجن في قضايا قديمة.. وعليه، نناشد المجلس الأعلى للقضاء أن يرأف به وبغيره من هذه الحالات ويبحث أمر تسوية القضايا القديمة التي تطارده.. كما نتمنى ممن يستطيع أن يوفر له العمل أن يفعل «على ضمانتي»؛ فهو تائب مخلص متحفز للحياة والعطاء.
ويبقى أن ندعو، ختاماً، المجتمع بأسره أن يكون أكثر إنسانية مع هؤلاء: فلا ينبذهم، ولا يجرحهم، ولا يحرمهم الحق الأصيل لبني البشر.. في البدء من جديد.