:للقلب والروح
في روايته “الهوية’’ يقوم ميلان كونديرا بمقاربةٍ لنفسية المرأة التي تكسر أنوثتها من الداخل جراء نزوحها من دائرة الجاذبية والإغواء لدائرة التهميش والإهمال.. تبدأ الرواية بأحداث هامشية تغيِر مسار حياة “شانتان’’ ورفيق عمرها “جان مارك’’.. ففي رحلتهما لمنطقة ساحلية فرنسية تاها عن بعضهما لساعات، فيها لمح جان من بعيد سيدة فظنها شانتان؛ فلما اقترب منها ولامسها استدارت فاكتشف أنها امرأة أخرى. هذا الموقف العابر فجر في نفس جان نبعاً في الأسئلة المقلقة: أيعقل أن الفرق بين شانتال والأخريات ضئيل لهذه الدرجة – تساءل- كيف عجزت عن التمييز بين الإنسانة الأغلى على قلبي وبين تلك الغريبة!!
شانتال – بدورها- تتعرض لموقف وهي تبحث عن جان بمحاذاة الشاطئ، فللمرة الأولى منذ وقت طويل، توددَ لها شابان بعبارات غزل دفعتها للتفكير بأنها لم تعد المرأة المرغوبة التي تهفو لها نفوس الرجال.. تلاقا بعدها؛ ولكن ظلالاً من الكآبه خيم على علاقتهما جراء اهتزاز ثقة شانتال بنفسها وثقة جان بحبهما..
في محاولة منه لكسر هذا الجمود يشرع جان في كتابة رسائل لشانتال باسم مستعار – وكأنه معجب سري- متوقعاً أن تهرع إليه وتخبره بالأمر فيفضي لها أخيراً بمكنونات صدره ولكنها؛ لا تفعل.. إذ يفاجأ جان بأن شانتال تخفي أمر الرسائل عنه، ما يشعل جذوة الغيرة في نفسه.. وتبدأ علاقتهما في التداعي عندما يجد جان أن بؤس شانتال استحال غبطةً وحماساً بسبب تلك الرسائل؛ وتتصاعد الأحداث عندما يطلب “المعجب’’ لقاءً سرياً من شانتال؛ ويكتشف جان انها تخطط فعلا للقاء شخص – لا تعرف عنه شيئا- في خطوة لا يجد لها في عقله مبرراً!!
تلك الرواية، رغم بساطتها ورتمها البطيء، تحاول القبض على مشاعر لا تفهمها سوى النساء.. فعندما تجور آثار الزمن على جسد المرأة؛ يولد مع تجاعيدها شرخٌ يزداد تباعاً.. غالباً لا يلحظ الشريك تلك التغيرات النفسية والجسدية؛ أو لا يعيرها اهتماما ما يضخم في نفس المرأة الحزن على أنوثتها المهدورة التي تلاشت في غفلة من الزمن.. وكثيراً ما تنسلُ من الشريك – أو غيره- تعليقات متفذلكة تمزِق ثقة المرأة بذاتها أكثر فأكثر؛ ويمنعها كبرياؤها عادةً عن الإفصاح بألمها وتأثرها..
وجع مبطن هو.. إحساس ثقيل كثيراً ما تتجاهله المرأة أملاً في أن يتبخر فتكبته في ثنايا النفس ليتفجر لاحقا بصور أخرى: بصورة مرض وألم وهمي يؤرقها ولا يجد الأطباء له تفسيراً عضوياً.. بصورة عدوانية أو كآبه تفتعل من خلالها المرأة عداءات وهمية وحكايا تنتزعها من الواقع وتصرف انتباهها عن رائحة الشيخوخة التي بدأت تزكم أنفها..!!
سمعت سيدة تروي ذات مرة كيف أنها تعيش قصص حب في خيالها مع أشخاص وهميين لتهرب من إهمال زوجها وجفافه وصلافته.. روت كيف أنها باتت تحيا على غزل فارسها الوهمي وعشقه لبساطتها ولونها الشاحب وثنياتها بل ونظارتها!! روت ذلك بابتسامة دامعة؛ لم تكن تريد شفقة ولا نصيحة؛ بل كانت على الأرجح تريد أن تشعر بإحساس كشف سرها بصوت عال..
قد يبدو ما نقوله هنا سخيفا / مبهما/ غير مبرر لأغلب الرجال.. فحاجة المرأة – سيما إن تقادم بها العمر- لأن تشعر أنها مرغوبة؛ أنها مُغوية؛ أنها لا زالت رقما بين الإناث؛ أنها لازالت تملك ما تنافس به الشابات اليافعات.. أمرٌ عصي على فهم أفئدة جمعٍ من الرجال سيما من يجهلون؛ أو لا يعبأون؛ بطوفان المشاعر الذي يفيض في نفوس الإناث..
رحيق الكلام:
قل لي – ولو كذباً- كلاماً ناعماً..
قد كاد يقتلني بك.. التمثالُ
– نزار قباني——