:للفكر
في مطلع ديوانه الخالد يتحدث جلال الدين الرومي – العلامة وأحد أقطاب الشعر الفارسي – راوياً قصة الناي في نوع من الإسقاط على الدين والشريعة، مشبهاً الدين بالناي الأجوف الذي ينفخ فيه سبحانه وتعالى من روحه وتعاليمه طرفاً؛ لتخرج للناس نغماً رخيماً من الطرف الآخر.. يقول الرومي ”بتصرف”:
استمع الى أنين الناي يأخذ في الشكاية ويمضي في الحكاية ويقول: ضج الناس بصوت التياعي. المحب يعتقد أني أتحدث عن حبه والتعيس يعتقد أني أشكو لوعته والسعيد يراني أغني له.. كل امرئ يظن أني رفيقه وأني أحكي حاله.. لكن أحدا لم يبحث بداخلي ولم يسمع حكايتي. إني لا أحكي حكاية السعيد ولا الحزين. أنا أحكي قصتي، قصتي منذ أن اقتلعت من الغابة وقصة حنيني لأشجار الخيزران..
الكل يسمع أنيني ولكن لا أحد يسمعني.
ألا ترون أن ديننا كذلك كذاك الناي المستوحش.. المثقف المتنور يرى ديننا دين حضارة متناغماً مع العصر ومدنيته.. الجميل يرى الدين دين جمال وسماحة ورقي وسلام.. والمتطرف في الكهوف يرى الدين دين تشدد وقوة وسيف.. والمنزوي في زوايا بيته ومنبره ومسجده يراه دين زهد وامتحان.. كلنا يرى الدين كما يراه ويفهمه على هواه، وليس لأحد منا أن يحكم على فهم الآخر فقد نكون جميعا على حق، أو على باطل أو بين هذا وذاك.. فالعلم عند الله.
في الأسبوع الماضي.. عندما تحدثت عن رجال الدين نافية عنهم القدسية وداعية الناس لإعمال عقولهم في قبول/ رفض ما يسمعونه وجدت من يقول إن تلك المقالات تبتغي إبعاد الناس عن قياداتهم الدينية. وحاجج البعض مستنكرين رفض تقديس العلماء في الوقت الذي يقدس فيه الملوك والحكام، مشددين على أن العلماء خط أحمر ”شاء من شاء وأبى من أبى”، على حد تعبير أحد المعلقين الأعزاء..!!
والحق أننا لا نقدس الحكام والملوك ولن نفعل ولم ندعُ أحداً ليفعل.. على وجه هذه البسيطة ليس هناك مقدسون ولا ملائكة ولا أباليس. كلنا بشر نتفاوت في العلم والإنسانية والتوضعات المجتمعية ونبقى بشراً ”ولاد تسعة”.. أما من قال بأن�’ا نحاول تسقيط العلماء فقد افترى، فنحن نحترم رجال الدين ونجلهم.. ولك�’نا نريدهم أن يسوقوا لأنفسهم على أنهم بشر لا صوت الله في أرضه.. نريد للوعي في العقول أن ينشط ليعي – ولا يعي فحسب بل ويترجم هذا الوعي فعلاً – أن كل رجل دين يعكس تجربته وبيئته وهو ما لا ينطبق بالضرورة على سواهم..
قيل لي بعد المقال إن لحوم العلماء مسمومة تحذيراً وتهويلاً فقلت لحوم كل المسلمين مسمومة ولا أذكر أني تعرضت للحم أحد.. ما فعلت إلا أن دعوت لإعمال العقل وعدم تأجيره لأحد.. دعوت أن ننظر للدين بقلوبنا وعقولنا دون مغالاة ولا تشدد.. ديننا عظيم وديننا يسعنا كلنا على اختلاف مناهجنا ولكن كما يقول طاغور:
(المرعى أخضر، ولكن العنز مريضة)
هـامـش
ــــــــــــ
في مقال الجمعة الماضية خانني التعبير – وأعتذر – عندما قلت إن رجل الدين يبدأ في الفتوى بعد عامين أو أربعة من تلقي العلوم الدينية. فلم أكن أقصد الفتوى بمعنى إصدار الفتاوى المح�’كمة بل عنيت توجيه الناس في كل صغيرة وكبيرة بما يفهم للعامة على أنه قول فصل لأنه صادر من ملتحٍ أو معمم ولو كان متواضع العلم والفكر.. وأشكر السيدين عبدالله سيف وسامي القرمزي للفت انتباهي لذلك.