:للفكر
في العام 1955 رفضت روزا باركس – وهي حائكة زنجية فقيرة – التخلي عن مقعدها في الحافلة لشخص أبيض متحدية بذلك القانون والعرف في ولاية ألاباما الأميركية. وأطلق موقفها ذاك، والعقاب الجائر الذي وقع عليها، حركة واسعة آنذاك أدت إلى وضع حد للتمييز العنصري في الولايات المتحدة.
قبل ثلاثة أعوام فقط توفيت تلك السيدة، وسجي جثمانها في الكونغرس، وجثا عليه المشيعون يتقدمهم الرئيس الأميركي نفسه، وهي تشريفات لم يحظَ بها على مر السنوات سوى ثلاثين شخصية فقط من العظماء من رؤساء الحرب وأبطالها، وذلك تشريفاً لها لكونها قد «غيرت وجه أميركا» بحركتها العفوية الأبية تلك..
حديثاً، تابعنا جميعاً الانتخابات الأميركية وإرهاصاتها وهوس العرب – كعادتهم – ببناء الآمال والاستبشار بالعهد الجديد وما سيجره على الملفات الشرق أوسطية من تبعات وتحولات.. ورغم أن�’نا ممن لا يرون في تغير شخص الرئيس أية مدلولات – وللعرب خصوصاً – لما نخبره عن الولايات المتحدة من أنها دولة مؤسسات وليست دكاكين تدار بشكل فردي واسحواذي كما نرى هاهنا. وبالتالي نعلم أن السياسات والخطى لا تتقولب تبعاً لشخص الرئيس بقدر ما تغيرها توازنات المصالح التي تسيرها اللوبيات والدارسات.. فلا بوش «دام ظله» ولا أسلافه هم الذي قرروا كأشخاص استهداف منابع الثروة ومؤازرة الكيان الإسرائيلي الغاصب وعملقته.. وليس بوش هو من يملك مفتاح الخزنة التي سلمته المليارات الـ 816 التي استخدمها موازنةً لغزو العراق، بل هي المؤسسات وجهات تدير اللعبة، وذلك أمر يصعب علينا كأفراد في دول مرتهنة بشخصيات أن نستوعبه تماماً..!
رغم وجود القناعة أعلاه، نقول إننا تابعنا الانتخابات باعتبارها ظاهرة تحول إنسانية.. فاليوم وبعد 4 عقود من جهود محاربة الانشقاق العنصري بدأت نار العنصرية في الخبو.. وذلك بذاته انتصار للقوانين والجهود التي جرمت التمييز، بل حتى الألفاظ والمصطلحات العرقية والتمييزية أملاً في مجتمع أكثر تلاحماً.. بالطبع ذلك النجاح مازال منقوصاً، بدليل أن عدد جياع أميركا البالغ 34 مليون شخص مازالوا إجمالاً من السود والأقليات الملونة، كما مازال 3,49% من السود يعيشون تحت خط الفقر، ولكن الوضع في تحسن مستمر، ومن شأن وجود رئيس أسود في سدة الحكم أن يدفع بالوضع إلى الأفضل.
إن نجاح أوباما – وإن كان لن يمحو عنصرية تجذرت عبر العقود – إلا أنه بذاته مؤشر على أن الناخب الأميركي تفوق على نفسه وصارع دواخله النزاعة للعنصرية ليختار الشخص الأفضل أملاً في مجتمع أفضل.. وهو يحتسب له ولروزا – الخياطة البسيطة – كما يحتسب للشعب الأميركي كله..
وهو بهذا المعنى نجاح لكل السياسات والتشريعات التي سنتها الدولة لزحزحة صخر التمييز والتشرذم من فوق صدر الأمة.. وفي هذا الذي حققوه رسالة للحكومات الصادقة والجادة في صهر فرقائها في بوتقة الوطن.. فالهدف ممكن، إنما عبر بعض التشريعات والقوانين المقاومة للتمييز – ولو لحين – أن تتودك مبادئ المساواة في العامة فيألفونها ويتآلفون معها..
فإن كان الشعب الأميركي وحكوماته قد نجحوا في طمر تاريخ دموي سحيق من العبودية والقهر والتمييز.. فالأمل كبير لباقي الشعوب في أن تتجاوز سوءاتها وتنتفض على فروقاتها طمعاً في غد أفضل.