:للفكر
يعكف العلماء اليوم على تجربة مثيرة للجدل تهدف لابتكار عقار يمسح الذاكرة للأبد.. ويطمح هؤلاء؛ أن يستغلوا ما توافر من معلومات بشأن خريطة المخ وتفاعلاته الكيميائية في استهداف مكمن الذكريات المريرة في المخ وشطبها.. البعض نظر للتجربة على أنها ”ترف علمي”، فيما حذ�’ر آخرون من خطورة الخطوة، بيد أن المتحمسين للتجربة رأوا فيها خيراً للبشرية، فكثير من البشر يحرمون من التمتع بالحياة؛ لأنهم يسيرون مثقلين بجراح قديمة وتجارب وصدمات مر�’ة تست�’ل السعادة منهم، فتجارب الاعتداء الجنسي، الطفولة القاسية، الصدمات العاطفية المبكرة، المنعطفات الحياتية الحادة، كلها تجارب تصبغ الشخصية وقد تحول البعض، البعض نقول، لشخصيات سوداوية تميل للانتحار أو الانسحاب من الحياة.
أول سؤال يباغت الذاكرة عند السماع بهكذا عقار هو:
لو نجح العلماء ”وما ذلك بعسير على من غزا الفضاء واستنسخ المخلوقات” أسنرغب حقاً وبكامل إرادتنا ووعينا أن نمسح جزءاً من ذكرياتنا أم سنتشبث حتى بأجزاء مكتنزة بندوب الماضي وذكرياته الأليمة ؟! ألسنا بحاجة لأن نكون ” أخف” بإلقاء بعض الأحمال التي تثقلنا منذ سنين؛ أم نحن بحاجة لكل ذكرياتنا وتجاربنا لنعيش بظلها حياتنا الجديدة؟!
كثيرون قد يعاجلون بالرفض أو القبول تبعاً لتقديرهم الشخصي لحجم تأثير الماضي عليهم.. فمن سلط ماضيه سلطاناً على حاضره – وصارت تجاربه القديمة هي من يدير دفة حياته- قد يرى في اغتيال ذاكرته خلاصه من الخوف والألم.. وهؤلاء هم من يبدؤون تجاربهم من النهاية مغلبين سوء الظن على حسنه ؛ مطوقين ذواتهم بسياج يقيهم دوي السقوط في الفشل مجدداً ؛ لاحقاً؛ يكتشف هؤلاء أن سياجهم الحامي هو سجن يحبسهم عن الحياة بما فيها من عفوية ولذة؛ وربما كان هذا ما يرمي إليه الفيلسوف ميلان كونديرا عندما قال :
وهم خالص ان تريد في مكان ما وسط الحياة أن تبدأ ”حياة جديدة” لا تشبه التي مضت؛ فحياتك ستكون دائما مبنية من المشاكل ذاتها؛ وما سيبدو لك للوهلة الأولى ”حياة جديدة” سيتكشف باكراً جداً أنه وجه آخر لحياتك السابقة”.
على الأرض نرى ما يقوله كونديرا صحيحاً.. ولكن لا علاقة للأمر بتعويذة أو لعنة من أي نوع.. فحياتنا تعيد نفسها كالإسطوانة المشروخة لأننا ببساطة نسمح لتجاربنا السابقة ؛ لمخاوفنا السابقة؛ لأخطائنا السابقة أن تسيطر على حياتنا وتتحكم في مصائرنا..!!
نعم الجراح الغائرة في النفس.. مؤلمة.. ومدمرة.. ولكن مسح الذاكرة ليس بحل؛ فشخصيت المرء منا تبنى على جراحه وهزائمه لا انتصاراته.. ثن�’ على ذلك أن المؤمن – في نظري- لا يحتاج لهذا الدواء: لأنه يدري ان جميع ما أصابه من شر خير.. وأن كل ابتلاء مر�’ به مفتاح رحمة.. يقول رسولنا الكريم (عجباً لأمر المؤمن إن�’ أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فالمؤمن لا يحزن على ما فاته ولا ما أصابه مهما كانت جراحه عميقة يعرف أن معه رباً لن يخذله.. رباً أقرب إليه من حبل الوريد يتكئ عليه في مضراته قبل مسراته.. ويسأله المدد والعوض.