:للفكر
رعت المملكة العربية السعودية العام الماضي – بفاتورة إجمالية تجاوزت 70 مليون دولار – مؤتمر حوار الأديان في مدريد إيماناً منها بالائتلاف والوحدة كخيار بقاء ونماء. في الافتتاح ألقى خادم الحرمين كلمة، أسبغت وسائل الإعلام عليها ثناءً غزيراً، شخ�’ص جلالته فيها سبب إخفاق حوارات الأديان اجمالا بقوله «معظم الحوارات فشلت؛ لأنها تحولت إلى تراشق يركز على الفوارق ويضخمها؛ ولأنها حاولت صهر الأديان والمذاهب بحجة التقريب بينها، وهذا مجهود عقيم، فأصحاب كل دين مقتنعون بعقيدتهم لا يقبلون عنها بديلاً».
هذه الرؤية الملكية الواضحة لأهمية احترام الخصوصيات ينبغي أن تصل إلى بعض الهيئات والسلطات في الشقيقة السعودية، لاسيما تلك المسؤولة عن إدارة الديار المقدسة، حيث يتقاطر ملايين المسلمين على مدار العام وكلهم أمل أن يمارسوا عباداتهم – كلٌ بعقيدته ونهجه – بحرية ومن دون مضايقات أو تهديدات.
فما شهدته ساحة المسجد النبوي الأسبوع الماضي من اشتباكات استمرت أياماً بين الأمن وجماعات من الشيعة أسفرت عن سقوط 8 جرحى واعتقال خمسة وضرب العشرات، مبعثٌ للتذكير بخطبة خادم الحرمين وما بُسط فيها من توجيهات ورؤى.. فسواء كان الشرارة – كما قيل – قد انطلقت بسبب إقدام أحد رجال هيئة الأمر بالمعروف على تصوير نساء الشيعة بمحاذاة سور البقيع.. أو كان السبب – كما يؤكد رجال الهيئة – هو إصرار بعض الشيعة على دخول المقابر عنوةً بعد انتهاء الوقت المسموح للزيارة..
آياً كان السبب نقول فإن حدث، وفي حرم رسول الله، شيء جل�’ل.. كان من الواجب تفاديه من الطرفين – بأي ثمن – احتراماً لقدسية هذه البقعة الطاهرة.
فواقعة البقيع – المصورة كاملة على الـ «يوتيوب» – قد عر�’ت هشاشة دعاوى احترام المذاهب وعمق الصدع بين المسلمين وعجزهم المارق عن التسامي على فروقاتهم.. وكشفت عن حاجتنا – قبل الحوار مع الأديان لتصويب صورة الإسلام – عن حاجتنا إلى ترميم البيت الداخلي المتصدع.. فما يُنسج عن الشيعة من أنهم مشركون وعبدة قبور وما يقال من أنهم يقولون بتحريف القرآن ويتهمون أمهات المؤمنين بالزنا – والعياذ بالله – هو مدعاةٌ لإثارة غضب السنة وحنقهم في دولة تحمل راية الدعوة والتوحيد ونبذ البدع والخرافات.. لذا فإن ما نراه من إهانة دائمة لزوار البقيع يرونه هم في المقابل كذوذ عن الإسلام والحرم المقدس من ممارسات يخالطها الشرك والبدع.. ولا سبيل لتقويم الوضع إلا بتصويب الصور الثاوية – المشوهة إجمالاً – عن الآخر.
علماً أن تلك الاشتباكات والمناوشات ليست بطارئة؛ فهي تتواتر في مواسم الحج والعمرة بين رجال الهيئة والحملات الشيعية بمحاذاة سور البقيع ذاته (حيث قبور كثير من أهل البيت والصحابة)، ولكن تلك المناوشات عادةً لا تتجاوز التراشق بالكلمات أو اعتقال بعض الزوار لساعات لنهرهم وزجرهم (وكثير من البحرينيين عاشوا تلك التجربة بالمناسبة)، إلا أن الأمور هذه المرة تعقدت واستفحلت بما يُخشى من تبعاته مستقبلاً.
الشاهد أن ما جرى يجب أن يُت�’خذ دافعاً لتعديل الأوضاع وترتيب الأوراق.. فمن جهة نأمل من الإخوة هناك زيادة ساعات زيارة البقيع، إذ إن ساعةً قبل الإشراق وساعةً بعد العصر ليست بكافية قياساً بحجم الزوار.. كما نأمل أن تكون هذه الحوادث المدمية باعثاً للرئيس الجديد لهيئة الأمر بالمعروف على التوجه إلى سياسة «أكثر تسامحاً» تجاه معتقدات الآخرين.. فمن حق الناس الذين يأتون من شق�’ةً بعيدة وينفقون الغالي والنفيس للحج والعمرة – غالباً لمرة في العمر – أن يمارسوا عباداتهم كما يرتؤون من دون التعرض إلى مضايقات أو إهانة من أحد، لاسيما إذا هم التزموا الحدود ولم يتعدوا على غيرهم