:للفكر

برهبةً كامنةً كنا نتأهب للعملية وننتظر طبيب التخدير ليعطل حواسنا ويعهد بوظائف جسدنا لرحمة الأجهزة. حينها ألتفت للأوروبية المزجاة بقربي وقلت ملاطفة «حمداً لله إنك جميلة؛ فلو توفينا الآن فسيكون وجهك هو آخر ما سأراه في الدنيا» بادلتني المجاملة وسألتني عن جنسيتي.. فلما علمت أني بحرينية تبسمت «لا تبدين منهم – قالت – هم لطفاء في الحقيقة ولكنهم شعب منتحب whinny .. في السنوات الـ 18 الأخيرة تنقلت وزوجي الدبلوماسي بين عواصم شرقية عدة ولكني لم أرَ مثلهم في التذمر والشكوى.. يا إلهي.. فقراؤهم وارستقراطيوهم.. عامتهم ومسؤولوهم.. الغريب أن الحياة في البحرين جميلة
-اردفت- ولكن الناس هنا لا يبدو وكأنهم يرون ذلك!!». لم أكن في وارد الرد عليها كما لم أشعر بأنها تقصد الإساءة بقدر ما كانت تريد حديثاً تزجي به الوقت الذي بدا وكأنه تجمد.. وفي العمق رأيت فيما قالت شيئاً من الوجاهة؛ وانهمرت حينها على ذاكرتي عشرات الملاحظات المتذاكية التي سمعتها من غرباء في رحلاتي العديدة؛ أوقحها ما قالها لي يوما سائق أجرة شامي هازئاً «من يسمع ضجيجكم أيها البحرينيون لا يكاد يصدق أنكم بحجم أصغر محافظة في بلادنا!!».. حاصرني حينها سؤال وحيد «لماذا يغشنا كل هذا الحزن ونحن نعيش حياة – قد- يحسدنا عليها أبناء الشعوب الأخرى!!».

ماذا تعني مشاكلنا مقارنة بتلك العواصم التي يتكدس فيها ملايين البشر ويتناهشها الفقر والعوز والكوارث والزلازل.. لِمَ يبدون قانعين راضين أكثر منا؟! ولِمَ لا يبدون حانقين على حكوماتهم وسلطاتهم مثلنا!!

هناك نسمع أحايين لمحات تذمر من المعسرين؛ أما في البحرين فكلنا نتذمر.. كلنا محاصر بقلق وضيق غير مؤطر بمعقولية ما.. فيه خشية من الغد.. خشية من الآخر.. لسنا شعبا سعيدا؛ هذا ما هو مؤكد؛ وإحساسنا هذا يتفاقم عاماً بعد عام!!

هل نحن فعلا شعب منتحب متذمر؟!

هاجست نفسي بتلك الأسئلة – ربما – لأهرب من رهبة الإبرة الثخينة التي اخترقت جلدي بلا هوادة.. وقبل أن يغشي الضباب حواسي أجبت نفسي بكلمة واحدة تختزل سر الغضب وغياب القناعة وعموم حالة البؤس والقهر..

..العدالة.
فالبحرينيون ليسوا أفقر من سواهم.. والخدمات العامة التي تقدم لهم مرضية.. وليست أوضاعنا – والمن�’ة لله – قاسية حقا بل نحن في رفاه مقارنة بكثير من الشعوب.. ولكن الغصة تأتي من المعاملة غير المتساوية التي نحظى بها؛ ومن المعضلات – غير المبررة – التي أجبرنا على التعاطي معها.

كل الدول تذوق مر�’ البطالة.. ولكنها ليست بطالة مفصله على مقاس العاطل..!! 
ليست هناك وزارات محظورة وأخرى نصف محظورة وشركات محتكرة لفئات وطوائف ومقسمة بين سنية وشيعية وهوليه وأعجمية!!

الخدمات الإسكانية معضلة في كل المجتمعات.. ولسنوات قليلة مضت كان الناس ينتظرون الخدمة الإسكانية 10 و15 عاماً بصمت.. أما الآن – ولأن الحكومة منحت مجنسيها منازل وأبناء البلد يرقبون ذلك بحسرة – تفاقم التذمر وغدا يومياً وتحول لحنق عارم يغلي في نفوس طوائف البحرين كافة..!!

تعرف كل المجتمعات الفساد والتجاوزات والطبقية والظلم.. ولكن الظلم فيها يساوى بين الجميع.. يعرفون المعاناة المعيشية والكوارث والمحن ولكن معاناتهم ليست مصطنعة؛ معاناتهم تجمعهم أحياناً ولا تفرقهم وفق سياسة مرسومة سلفا..

نعم قد نكون متذمرين منتحبين.. وذلك لأننا نفتقد العدالة.. حتى في الظلم!!