:للفكر
مثلكم جميعاً.. سمعت في صباي عن جماعة ”السفارة” كلاماً تأرجح بين التهكم والتهجم. فلما مرت الأيام طامسة بغبارها هذا الهرج لم يبق في الذاكرة شيء من تفاصيل ما قيل إلا وشم صورة عتيقة لعصبةً من السذج مغيبة العقل والإرادة؛ تدير الأحلام حياتهم وتتحكم في قراراتهم بقيادة رجل يدعي الاتصال المباشر بالإمام المهدي..!!
لاحقاً؛ لما كبرنا ووعينا وتقاطعنا في الحياة مع مجموعة من أتباع هذا الفكر؛ وجدناهم خلاف ما سمعنا تماماً. صفوة منتقاة من المثقفين الواعين؛ طرح متوازن حصيف؛ خلق عال وفكر لا يعاب عليه – مع وجود هامش الاختلاف المقبول بين البشر كافة.
بالطبع تلك الجماعة لا تطرح نفسها على أنها من السفارة بل وترفض هذه التسمية ملياً؛ خصوصاً بعد أن أعادت تشكيل نفسها بصورة جمعية ثقافية فكرية رحبة الأفق هي الأنشط اليوم بين مثيلاتها تنضوي تحت مسمى ”التجديد” الذي يختزل فكرها.. جمعية تجتهد لاختراق جمود الفكر الإسلامي؛ والمواءمة بين العصر والشرع وتلك في مجتمعاتنا – جريمة – لا تتماهى معها العقليات الدينية النمطية وتسارع لاغتيال مصداقية كل من يدعو ويروج لها.
بالمفاد استحقت هذه الجماعة – رغم هدوئها وانطوائها النسبي – حروباً ضروسة على مدار العقود الماضية هدأت وتيرتها في السنوات الأخيرة حتى أعادت تصادمات محاضرتي عالي الأخيرتين تأجيجها من جديد. تلك المحاضرات لم تأت لتفنيد فكر جمعية التجديد ورؤاها؛ بل للترويج لفساد وظلال عقيدة هذه الجماعة.. والحكم على سرائرهم بالإلحاد وعلى سلوكهم بالإباحية. والحق أن الاتهامات في بلادنا مجانية.. وليس هناك سوى الضمير وخشية الله؛ ما يمنع أي أحد من تكفير وتفسيق أي أحد.
فيما نقول نحن لا نحاكم عقيدة هذه الجماعة – أو غيرها – لأنها صلاحية لا يملكها أحد.. فلو عقدنا محاكم تفتيش لأفكار ومعتقدات خصومنا لانخرطنا في حرب استنزاف عبثية. فتنشيط الأوهام وإشاعة الموروث الإلغائي التخويني التكفيري لم ينفع يوماً مذهباً ولا ديناً. ولا ندري الى متى سنظل نروج لحتمية قبول الآخر وضرورة استيعاب قاعدة ”لكم دين ولي دين” وهي بديهيات – يفترض – أننا تجاوزناها منذ ردح من الزمن!!
ومن هذا المقام نهيب بالمنضوين تحت الجمعية أيضاً أن لا ينحدروا لمستوى المقارعة بالمثل، خصوصاً أنهم يدعون للتسامح والمنطق والمحبة.. وليعلموا أن الناس ما عادت تأخذ ما يقال في المساجد والحسينيات على أنه كتاب منزل.. ربما لم يصلوا إلى مرحلة المجاهرة بالرفض والاستنكار ولكن لهم عقول تمحص.. وكم من أطروحات عقيمة اغتالت نفسها بنفسها لما سمح لها ببسط منطقها أمام العامة.. وكم من أطروحات أخذت أكبر من حجمها لمجرد أنها حُجبت فظن الناس بها خيراً غير موجود!!
ذروا عنكم أوهام الفرقة الناجية والانشغال بتقسيم الخلق لأهل جنة ونار ومؤمنين وكفار.. ذروا عنكم ثقافة عناكب الشك وقمع المختلفين ومقارعة الأفكار بالتهم.. كيف تدعون على أعداء الإسلام في صلاتكم وتقولون ”رب اجعل شغلهم في أنفسهم” لعلمكم بما في ذلك من شر ودمار؛ ثم تجعلون شغلكم في أنفسكم!!إخفاقات مركبة..توقع تقرير صادر عن معهد التمويل الدولي أن حجم العوائد النفطية لدول الخليج الست سيتجاوز هذا العام الـ 600 مليار بعد أن جاوز العام الماضي حاجز الـ570 مليار دولار؛ هذا وقدرت مؤسسة ميرل لينش العالمية فوائض الميزان التجاري الخليجية بنحو 65 مليار دولار؛ فهل أحسنت دول الخليج إدارة هذه العوائد؟! وكيف وظفت هذه الوفورات والفوائض للاستعداد لمستقبل ما بعد النفط (مستقبل ما بعد انخفاض أسعار النفط) مستقبل ما بعد إيجاد بدائل للنفط؟!
سؤال تكشف إجابته إخفاقات السياسات الاقتصادية الخليجية؛ وحقيقة النجاحات الهشة التي نعيش بوهمها.. فجلُ ما فعلته دول الخليج – وأثرياؤها المقربون من السلطة الذين انتفعوا برذاذ عوائد النفط على شكل صفقات ومناقصات – هو توجيه تلك السيولة للخارج حيث وصلت استثمارات القطاع الخاص الخليجي في الخارج لألف مليار دولار في حين لا تتجاوز استثماراتهم في دول المجلس الـ 20 مليار دولار ”ما نسبته8.1% فقط من إجمالي الاستثمارات”.. أما حجم الاستثمارات الحكومية الخارجية فغير معلن بطبيعة الحال.. وكل ما نعرفه هو أن دول الخليج سخرت فوائض النفط للاستحواذ على موانئ وفنادق وبنوك عالمية ”منها بنكي ماربيل لنش وسيتي بنك وعدد من الموانئ الأمريكية” بصفقات خيالية يشكك البعض بجدواها وعوائدها..
يأتي ذلك في الوقت الذي توقعنا فيه كشعوب أن تستغل دولنا تلك العوائد للتأسيس لصناعة تُصوب اختلال البنية الإنتاجية والصناعية لاسيما وأن كل المعطيات متوفرة: وفرة في رأس المال؛ موقع جغرافي ملائم؛ وسائل نقل ميسرة؛ تركز في المعادن والمواد الخام؛ وفرة في الأيدي العاملة والعقول والكوادر. ولكن دول الخليج انشغلت عن هذا التحدي بتوظيف عوائد النفط في استثمارات مجهولة الحجم ”محجوبة عن الرقابة” وذرت الرماد في عيون الشعوب الغافلة بتحديث بنيتها التحتية وتحقيق رفاهية نسبية لمواطنيها ”بعضها على أية حال” وذلك لصرف الانتباه عن الإصلاحات الضرورية لمواجهة تحديات المستقبل.
علماً بأن دولنا لم تكتف بإهمال الصناعة فحسب، بل تبنت اتفاقيات تئد القطاع الصناعي الخاص في مهده. والمفارقة تكمن في أن دول الخليج؛ القريبة من النموذج الاشتراكي في هيمنتها على مناحي المشهد الاقتصادي والسياسي؛ تتبنى – في الوقت عينه – النموذج الرأسمالي في التجارة لتعفي نفسها من تقديم أي حماية ضريبية أو حوافز وضمانات للقطاع الخاص ليستثمر بدوره في الصناعة. وهو ما وضع الصناعات الخليجية الوليدة في موقع تنافسي قاسي مع صادرات الدول الأخرى..!!
وما ترونه الآن من تآكل الطبقة الوسطى ما هو إلا نتاج طبيعي لهذا الوضع المختل؛ فالوفورات التي انتظرنا أن توجه للإنتاج – رُحلت – للخارج. فكانت النتيجة أن المواطن العادي لم يستفد من ارتفاع موارد بلاده؛ بل تضرر من ارتفاع كلفة الإنتاج في الدول المصدرة؛ ما حول ارتفاع النفط لوبال على الشعوب التي اجتاحها الغلاء والتضخم..
إن خريطة الإخفاقات الاقتصادية لدولنا معقدة.. وعلى دول الخليج أن تعي أن ارتفاع أسعار النفط لن يستمر ولن يثبت.. فقد شهدت السبعينات طفرة خيالية في السعر، ما لبثت أن خبت في الثمانينات والتسعينات.. وإن لم تبادر دولنا لاقتناص الفرصة السانحة لبناء أرضية إنتاجية وخدمية حقيقية الآن.. فمتى إذن؟!