:للفكر

في المقابلات التي تتناول السير الذاتية للمشاهير، من فنانين وأدباء وسياسيين، هناك سؤال كلاسيكي ما يفتأ يتردد: ما الذي ندمت عليه في حياتك – يتساءل المحاور- ولو عاد بك الزمن للوراء ماذا ستغير؟ ومن اللافت أن الضيوف عادة ما يستنسخون الرد ذاته: لم نندم على شيء – يقولون بإعتزاز- ولو قدر لنا كتابة سيناريو جديد لحياتنا؛ فسنختاره ذاته بكل نجاحاته وإخفاقاته وأفراحه وهزائمه..!!
يدهشني هذا الرد ملياً: فأما أن ذاك الضيف منزه ولم يخطئ يوماً أو أنه أخطأ؛ وما ندم!! في الحالتين يغيظني الرد: ربما لأني أملك قائمة طويلة من الأمور التي ندمت عليها؛ وأتمنى لو عادت بي عقارب الساعة للوراء لأغيرها..!! 

حلقات الندم تلك تبدأ بالطفولة.. فقد اتخذت قراراً شبة واع أن لا أتعلم من العجم “البحرينيون من أصول فارسية’’ لغتهم، وأمنع طين عقلي اللازب عن حفظ كلماتهم.. فقد كنا أطفالاً في الابتدائية ونمارس التمييز العرقي “تخيلوا’’.. كنا ننظر بتعال أرعن للعجم وكأنهم درجة سادسة “لأننا نحتل بلا منازع الدرجات الخمس الأولى’’ بالطبع حينها كان مجتمع المنامة محصورا على البحارنة والعجم. لاحقاً، عندما خرجت من المنامة لمدارس أكثر تلوناً، مورس ضدنا التمييز العرقي والطائفي والطبقي، ولكنا بقينا نمارسه على غيرنا أيضاً؛ وبكل كفاءة واقتدار.. 

قساة هم الأطفال أليس كذلك؟
أو ربما هي الطبيعة البشرية في صيغتها البدائية: فجة رعناء عدوانية وأنانية، حتى إذا ما مستها الثقافة طوعتها؛ وهذبت الطباع ورققتها.. فالبشر – كالثمر تماما- قساة لا يهضمون قبل النضج؛ فإن ما نضجوا تبدل حالهم وطاب.. 

العجم حولنا لم يكونوا ملائكة بالمناسبة ولم يكونوا ضحايا كما أوحينا في الفقرات الأولى.. كانوا بدورهم يستغلون طبيعتهن الجسدية القوية لترهيبنا.. ويستصغرن جمالنا الأسمر مقارنة بشقرتهن.. ويستفززنا بالحديث بالفارسية والسخرية منا؛ ولكني أعود وأقول: إنها كانت ردة فعل ليس إلا على نبذنا وقسوتنا عليهم وما كنا نكيله لهم من قسوة.

اليوم؛ أسترجع هذا الشريط بعجب وأتساءل: كنا لم نشب على الطوق ولم نتقن جدول الضرب بعد: فمن أين كنا نأتي بأحجار العبارات المسننة التي كنا نتراشق بها..؟! حقاً: من أين ولماذا؟ حاولت كثيرا سبر منطلقات تلك القناعات العقيمة وما أفلحت. ولكني أعرف – يقيناً – أنه لم يكن شيئا سمعته من والدي اللذين كانا دوماً مثال الاعتدال “والدتي بسبب تدينها ووالدي بسبب عمق أحساسه بالمبادئ والأخلاقيات’’.. رجحت أحياناً أنه شيء ألتقطه – وزميلاتي في المدرسة – من الهواء. من النفس العام المسموم بالتعالي على الآخر وتعظيم الذات.. وذلك ليس بمستبعد.. فإن كان احتمال التقاط فيروس الأنفلونزا بمجرد المرور وسط تجمع بشري قائماً؛ فلم نستبعد حقيقة أنك تستطيع أن تلتقط ذبذبات الرفض والإقصاء من مجتمع تعيش فيه: من طريقة مناداتهم للآخرين، من أسلوب التندر عليهم، من طريقتهم في نقل خبر زواج فلان من “عجمية’’ ويا للهول؛ لو كان عجمياً!!

حرمتنا تلك النزعة المارقة من تعلم الكثير ومن الانفتاح على تجارب ثرية لاحقاً؛ فالمكتبة الإيرانية الثرية غنية بالمؤلفات التي لا نصل إليها بسبب حاجز اللغة؛ وهناك الإنتاج السينمائي والوثائقي المتفوق الذي لا نطلع إلا على شذرات منه للسبب ذاته.. هناك حضارة عظيمة منبسطةً غرب تخومنا ولم نستفد منها ومن إنتاجها الأدبي والصناعي والتكنولوجيا “ونحن من نستورد الإبر من الصين’’ وكل هذا بسبب حساسيات مارقة ودعوات هجينة..

الآن كثير منا تغيروا وأصبحوا يحتفون بالاختلاف ويزدهون بهذه الفسيسفاء الجميلة التي كونت الوطن.. فيما لازال بعضنا عالقا في مرحلة الطفولة ولم يتخرج من ابتدائية التفكير بعد.. لازال بعضنا يظن أنه، وإن لم تكن له امتيازات شخصية؛ أفضل من غيره لمجرد أنه ولد لهذه العائلة أو لتلك الجماعة..!!
علة كبيرة هي.. آفة حقيقية؛ دفعنا وسندفع ثمنها على صعيد شخصي وجماعي..