للوطن :
لازلت أذكر هذا الواقعة وكأني شاهدتها بالأمس ،،
مطلع التسعينات، وفي مظاهرة لمناهضة الإجهاض في ولاية أمريكية، أستبد الانفعال بأحد المتظاهرين فأضرم في نفسه النار تعبيراً عن رفضه لتمرير قانونٌ يبيح الإجهاض لكونه – وفقاً لسفر عاموس في الإنجيل- يُنذر بغضب السماء ويستوجب انتقام الرب عبر الكوارث من زلازلً وأعاصير.. كان من الوارد أن يموت ولكن المسعفون – لسوء طالعه- نجحوا في إنقاذه. لم تعرقل خطوته تلك القانون بالطبع، ولم يفقد حياته؛ ولكنه عاش بتشوهات دائمة وعطبت يداه بسبب الحروق البليغة..!!
قبل أن تستأنفوا قراءة المقال خذوا برهةً وقيموا موقف هذا الرجل بإنصاف.. أنه مؤمن – حتى العظم- بعدالة موقفه ووجاهة مطلبه.. وأراد أن يعبر عنه بثبات أمام المشرعين والرأي العام ولكن.. ألا تعتقدون أن طريقته في التعبير جرت عليه وبالا مديداً ، وجعلته يبدو في أعين الآخرين كمعتوه متطرف؛ أكثر منه صاحب رأي وموقف ومبدأ ..؟! ***** ذاك وقد قيل فسأخاطب في هذا المقال الشباب الذين يتخذون من عنف الشارع وسيلة للتعبير.. ومعهم محركيهم من الكبار بالطبع الذين يقنعونهم بجلال أفعالهم وفعاليتها في إحراج حكومة البحرين أمام المنظمات والعالم أجمع. والحق أن تلك التحركات، والمواجهات الأمنية الأسبوعية التي تولدها ، قد وضعت السلطة في زاوية وجعلت سياساتها محل تساؤل ، وقد يحسب بعضكم ذاك نصراً جزئياً أو هدفاً يُسجل في مرمى السلطة- ولكن- وإن كان ذلك صحيحا، فلتعلموا أن ما سُجل على الشيعة في البحرين، الذين ينتمي لهم هؤلاء المخربين – عفواً المحتجين- كان أكبر وأكثر ضرراً.. فمن جهة استُخدمت رؤوس الفتنة هذه المواجهات العابرة كمعول لهدم الثقة في شريحة عريضة من الشعب. واتخذت منها مبرراً للتشكيك في ولائهم وإقصائهم عن مواقع قيادية وأمنية حساسة. كما أنها كانت مسوغاً لتحلية مر التجنيس أمام باقي الفئات التي خُوفت من تغول بعبع ” الأرهابين” على حسابهم. أضف لذلك أن تهويل وتضخيم ما يجري ، حيث يعطي بعض الخراصيين الانطباع بوجود مليشيات تهدف لزعزعة الأمن وأن ما من أحد في مأمن على روحه وممتلكاته بسببهم. يسيء لمطالبات المعارضة الوطنية، سواء عندما يُطرح على القادة في البحرين أو عندما يُطرح في المؤتمرات واللقاءات الخارجية. ناهيك عن ما تعيشه القرى ذاتها من عسفً وكبدً وعناء جراء تلك المواجهات المتواترة.. نحن لا نَزن هنا عدالة المطالب فلا تديروا لنا – رجاءً- الأسطوانة التي نحفظها أكثر منكم. بل نقيس نجاعته ورزانة طرق التعبير وفعاليتها.. على مدى السنوات الثمان الماضية كانت هناك مواجهات في الشارع وإطارات تحرق هنا وطرقٌ تعطل هناك ومولوتوف يقذف ومسيل دموع يرد وحاويات تُوقد ورصاص مطاطي يتطاير وعصى وأسياخ تستخدم من الطرفين .. وعلى مدار السنوات الثمان لم تزد هذه المناوشات الوضع إلا تعقيداً: تدنى منسوب الثقة في مئات الآلاف من الشيعة بسبب مواجهات لا يعدو عدد أبطالها الـ200 شخص جُلهم يافعين فقد كثيرٌ منهم مستقبلهم بسبب القبض عليهم وبالتالي وصمهم بالإرهابيين للأبد !! ماذا نريد أن نقول ..؟ حسناً؛ وحدهم الأذكياء من يعيدون النظر في أساليبهم.. ويزنون الخسائر والأرباح ويراجعون الحسابات الختامية كل عام.. ولقد ثبت ، بما لا يدع مجالا للشك، أن اتخاذ العنف كوسيلة للتعبير خطوةٌ فاشلة ، فاااااشلة نقول ، سيما في وجود بدائل أكثر تحضراً وفعالية وطرق نافذةً يمكن انتهاجها للتعبير عن ذات المطالب والاعتراضات: أغلبكم – على سبيل المثال- يافعون متمكنون من الانترنت ودهاليزه.. أنشئوا مواقع عربية وانجليزية عبروا فيها عن آرائكم. فلتغلقها وزارة الإعلام وافتحوها مجددا” ما وراكم شيء” .. أوصلوا مرشحين شباب يحملون أفكاركم واطروحاتكم ، لستم بحاجة لانتخاب كهول وأئمة ومخضرمين في العمل السياسي بل زجوا ببعضكم للبرلمان ليعبروا بشكل شرعي ومسموع عن ما يخالجكم ” ولن تكونوا أسوء – بكثيرً- من الموجودين حالياً” ! بثوا برامج تلفزيونية على اليوتيوب تكلموا فيها بالصوت والصورة.. وليس ذلك بمكلف ولا مستعصً في وجود كاميرا وبعض الأسلاك.. هناك هامش كبير ووفير وأدوات حضاريةً عصرية أكثر وأقوى وأنجح من أساليب ” الجيفارية” التي انتهت صلاحيتها في السبعينات من القرن الماضي..!! لا تسمحوا للمندسين ومستثمري الفتن.. ولا للأقلام المسمومة المستنفعة من الشقاق.. ولا لمتسلقي الظهور أن يستخدموا غضبكم في تدميركم.. ولا تسحبوا النقاشات لساحة الهراوة أو الرصاص.. تصرفوا برصانة وعبروا عن أنفسكم برقي.. وارحمونا من هذا المَوالٍ المضجر الذي لم نجنِ منه إلا الوبال..