:للوطن

في مسرحيته ”نهر الجنون” كتب توفيق الحكيم راوياً كيف انفجر نبع ماء في المدينة، فأصاب كل مَن�’ شرب منه بالجنون.. وكان المجانين يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء الذين انعزلوا.. حتى ما إذا أتى الصباح الذي استيقظ فيه السلطان وإذا بالسلطانة قد جُنت بعدما شربت من ماء النبع!

فنادى السلطان حاشيته فأخبره وزيره بأنهم قد جُنُ�’وا.. فنادى الطبيب وكبير الكهنة، فوجد الجنون قد نالهم أيضا! 
فالتفت إلى وزيره، وقال: ”ما هذا المصاب.. مَن�’ بقي في هذه المدينة لم يجن؟”.
فرد عليه الوزير متأسفا ” لم يبق في المدينة يا مولاي إلا أنت وأنا وشرذمة قليلة.. والمشكلة أن المجانين يدعون أنهم العقلاء ونحن المجانين.. وهم الغالبية يا مولاي.. وهم من يرسم الحد الفاصل بين العقل والجنون”.
وهنا قال الملك: ”يا وزير أغدق عليَ�’ بكأس من نبع الجنون. إن الجنون أن تظل عاقلاً في دنيا المجانين!”.

تلك قصه تستحضرها النفس مرغمةً وهي ترى المشهد البحريني الذي يساق فيه الناس أفواجاً لنبع الجنون.. نبع الطائفية والفئوية..

فبلادنا لا شكَ�’ مصابة بجنون الطائفية.. بلحاظ ما نراه في الشارع.. بلحاظ ما نراه في الصحف.. بلحاظ ما نراه في الوزارات والجمعيات السياسية وحتى الخيرية.. بلحاظ ما نراه في أجهزة الدولة، بل وحتى المؤسسات الأهلية.. يوماً بعد يوم نُخندق ونُصنف ونُأرشف طائفياً..لا قيمة للدعوات والأطروحات اليوم في ذاتها؛ لأن كل همزة ولمزة تفسر وفق هوى قارئها ورأيه في انتمائك «وواجباتك» حيال هذا الإنتماء.

الهوية الأولى ”المسلمة البحرينية العربية” تندثر وتتقزم قبالة الهوية الثانية ”سلفية، جعفرية، عرقية، إثنية”؛ لذلك يزدهر خطاب فعاليات حق وخطاب جمعية المنبر وسواهم من الجهات مختلفة القالب متشابهة القلب.. فكلها جهات وطنية ولاكنها لا تتكلم عن الوطن ولا بلسان أطيافه كافة.. بل تتكلم من نافذة الطائفة وبصوت الطائفة ولمصلحة الطائفة ..

هستيريا لا عقلانية هي، جنون مُع�’دٍ هو .. يكاد يفقد البلاد كلها صوابها..! 

مشكلة حركة حق – ومن يشبهها- لا في رفضهم للمساوئ والفساد، بل في أنهم يتكلمون عن الشعب بعين الهموم الخاصة؛ لذا فهم غير مقبولين – إلا – من أتباعهم.. هم يتكلمون عن الشعب وكأنه الشيعة وليس الشيعة كلهم، بل بعضهم من أتباع معسكر الحسين..! وهذه الأطروحات تقابلها عند الأطراف الأخرى دعوات تحركها الغريزة ذاتها التي تحشد لحرب قوى وفق نظرية المعسكرات/ الخصوم والحلفاء.. وكلها مهاترات عقيمة لا تعود بنا إلى نقطة الصفر فحسب، بل إلى ما تحت الصفر، حيث تجمد الرابطة ونضوب الثقة وانقطاع الشعرة..!

على مدى الأيام الماضية كتبنا نخاطب في الناس رشدهم، آملين أن يعودوا لصوابهم ولا يهدموا المعبد.. أردنا أن نقول للناس لا تشربوا من نهر الجنون.. لا تقصموا ظهر البلد.. لا تدخلونا في دوامة أكبر منا.. لا تجعلوا الغيوم السوداء تحرمنا النور .. ليس لأيٍ�’ مِنَ�’ا حضن سوى حضن هذا البلد.. وليس لنا سوى هذه القيادة وليس لها سوانا.. فلنقاتل الفتنة قبل أن تقتلنا ..

هامش:
ومشت�’ تُصنفنا يدٌ مسمومةٌ مُتسنن هذا وذا متشيعُ
يا قاصدي قتلَ الأخو�’ة غيلةً لموا الشباك فطيرنا لايُخ�’دَعُ
غرس الإخاء كتابنا ونبينا فامتدَ�’ واشتبكت�’ عليه الأذرعُ

العلامة د.أحمد الوائلي