للقلب والروح :

يروى في التراث الصيني أن رفاقاً قصدوا حكيماً ليستفيدوا من حكمته في حل مشكلاتهم العالقة.. استقبلهم الحكيم بصمت وتركهم يتحدثون فاحتدم بينهم الجدل وسرعان ما تناسوا وجوده..

في خضم ذلك أمر الحكيم بإبريق شاي وأخذ يصب لجلاسه حتى امتلأت الكؤوس وفاضت ومع ذلك استمر بالصب رغم تنبيه الحاضرين وصراخهم به.. « أحكيم أنت أم معتوه – قال أحدهم- قصدناك لنستزيد منك فاستمعت لنا ؛ ثم ضيفتنا بإراقة الشاي على الأرض !!
نطق الحكيم حينها فقال : لقد قصدتموني وكؤوسكم ممتلئة.. ولا مكان في عقولكم وأفئدتكم لسماع المزيد؛ انتم ملأى بالرؤى والأفكار السلبية.. وكل ما سيصب فيكم من حكمة؛ سيراق على الأرض..!! 
********
في ثقافتنا الفراغ شيء مذموم والامتلاء محمود.. يمتدح الناس الشخص ذا البرنامج المزدحم بوصفه شخصا مهماً.. كما ويحمدُ في مجتمعاتنا الاجتماعيين الذين لا يتركون مناسبةً ولا حدثاً اجتماعيا إلا وتصدروه.. على مستوى أعمق يُثني المجتمع دوماً على ذوي الآراء الراسخة والمواقف المحنطة وعادةً ما يتباهى السياسيون والمثقفون بثباتهم على رؤيتهم ومواقفهم –عينها- رغم تعاقب السنوات ومر�’ العقود.!! من كلاسيكيات ما يوجه للفنانين والأدباء في المقابلات سؤال يقول: علام ندمت في حياتك.. ولو عاد الزمن بك للوراء؛ ماذا ستغير وعما ستتراجع..؟ وعادة ما يجيب هؤلاء بالقول إنهم ما ندموا على شيء ولو عادت بهم آلة الزمن بهم للوراء فسيعتصمون بذات الدرب والقرارات التي رسمت حياتهم بسياقها الحالي.. 
لا أخفيكم أن تلك الإجابات المستنسخة لطالما أثارت دهشتي وامتعاضي.. فالثبات على الآراء والمواقف؛ رغم تغير الزمن والمعطيات وتراكم التجربة والخبرة ؛ دليل على أن عجلة الزمن تمر بالمرء ولكنها لا توس�’ع رؤيته ولا تزيده نضوجا . أما من ينكر وجود محطات ندم في حياته فهو إما شخصٌ معصومٌ لا يخطأ؛ أو هو ممن يخطئون.. فلا يدركون أخطاءهم !! في الجوهر كلا الموقفين نابعان عن الامتلاء بالذات.. وانحراف الرؤية للحياة .. واقعا؛ هذه النماذج شديدة الشيوع في مجتمعاتنا: يتصرفون وكأنهم ملكوا ناصية الحكمة؛ وليسوا بحاجة للمزيد؛ لذا فإن المؤتمرات والمحاضرات العربية فاشلة إجمالاً.. لأن الحضور عادة ما يستقبلون ما يقال بتعال وفي دواخلهم نرجسي صغير يوشوش لهم أنهم يفوقون المتحدثين.. حنكة وفطنة..!! 
******
إننا بحاجة للفراغ بقدر حاجتنا للامتلاء.. وقبالة كل الكتابات التي تشجعكم على ملء الفراغ يأتي هذا المقال لتشجيعكم على اعتناق الفراغ وخلقه إن لم يوجد.. فالإناء يصنع من الطين، غير أن فراغه هو الذي يجعله صالحا لوظيفته. وفراغ المنازل هو الذي يجعلها قابلة للسكنى.. بحاجة نحن لبعض الفراغ في الوقت، ولمساحة فارغة في الفكر والوجدان لتستوعب ما يأتي من أفكار جديدة.. فراغ للاختلاء مع الذات

حول فنجان قهوة.. وفراغ للتفكير في الصورة البنورامية التي يحجبها الغرق في تفاصيل الحياة اليومية.. 
أفسحوا فراغاً في جداولكم.. لأنفسكم. أفسحوا فراغاً في قلوبكم لمشاعر جديدة عبر طرد بعضالذكريات والأحقاد غير الضرورية.. نظفوا عقولكم من فواسد الأفكار لتتمكنوا من امتصاص رؤى وأفكار جديدة.. أفرغوا كؤوسكم ..تغنموا.. 
رحيق الكلام :
الفراغ هو الذي يعطي المعنى، فضاؤك الداخلي هو ما يمنحك أسباب الوجود 
من كتاب التاو تي تشينغ