للوطن :

في محاولتنا لتأريخ أزمة التعليم الجامعي، قلنا بالأمس إنها بدأت من عتبات جامعة البحرين التي كشفت للطامحين الكنز المدفون في تجارة التعليم. فبعد أن فتحت البرنامج المسائي الذي استقطب -رغم كلفته العالية- آلاف الطلبة الذين دروا على خزينة الجامعة ”شيء وشويات”، فما كان منها إلا أن كثفت المواد وتماهت مع الطلبة في الحضور والدرجات والامتحانات ”تماما كما تفعل الجامعات الخاصة اليوم”، وما أشبه اليوم بالأمس.. بالطبع تعالت الأصوات التي برق لها لمعان الذهب مطالبةً بـ”تخفيف الضغط” على جامعة البحرين بفتح جامعات خاصة، وسرعان ما فتحت تلك الجامعات أبوابها -وبأقل الإمكانات- في شقق أو مبان آيلة للسقوط تارة؛ أو في قاعات تجاور مطاعم المشويات والهمبورجر!! أو مبانٍ يسمع منها ضجيج المساومين على البضائع!! وتوزعت المناصب الأكاديمية والإدارية على الأقارب والأبناء والزملاء، وسرعان ما بدأت عجلة بيع الشهادات في الدوران.. 
عاملان عب�’دا الدرب لتلك الجامعات: غفلة المسؤولين من جهة؛ ونفور الطلبة من جامعة البحرين التي وما إن قللت رسومها وخفضت نسبة قبولها حتى أصبحت هي الأخرى سوقاً من نوع آخر: اكتظاظ في الفصول وضغط على التسجيل وتعامل مجحف متعالٍ من قبل الأساتذة والإداريين.. كثير من أولياء الأمور قذفوا بأبنائهم لأحضان الجامعات الخاصة -لا طمعاً في الدرجات الحاتمية والتعليم اليسير- بل خشيةً على أبنائهم من الشقاء الذي يقاسيه طالب جامعة البحرين على أصعدة شتى.. 

مستوى التعليم في تلك الجامعات تكشف من البداية ولكنها اكتسبت حصانة غير مكتوبة.. فمن جهة، هي مملوكة لأكابر الشخصيات التعليمية في البلاد ومستثمروها من العوائل الثرية في البحرين وخارجها.. ومن أخرى، فإن أبناء الشخصيات النافذة قد التحقوا بتلك الجامعات ”بما فيهم بالمناسبة كثير من أبناء السادة أعضاء مجلس التعليم العالي”، وعليه كان من الطبيعي أن يلبس هؤلاء كمامة لئلا يشموا الرائحة التي تزكم الأنوف..!!

اليوم، وبعد الصفعة الكويتية، تغيرت أشياء كثيرة، أو لنقل إنها في سبيلها للتغيير، ولكن ذلك لا يزيح الوزر والمسؤولية عم�’ن سمحوا للأمور أن تصل لما وصلت إليه.. فما تناهى لمسامع الإخوة في الكويت لم يكن بجديد؛ فقد انطلق من الحناجر في البحرين واستجيب له في الكويت قبل البحرين في مفارقة لاشك تستحق التأمل.. وما طفح للسطح ليس سوى قمة جبل الجليد؛ ولو حققت الوزارة في الشهادات التي أرسلت عبر البريد والشهادات المزورة لبعض مسؤولي الجامعات أنفسهم لوجدت أنها تتعامل مع ”تجار شنطة” يبيعون الشهادات علناً -إلا من رحم ربي بالطبع- وهو ما قلناه سلفاً فاتهمنا ”بتشويه سمعة البحرين لصالح المنافسين في الخليج!!”.

اليوم، وبعد أن وقع ما وقع، يجب محاصرة الخسائر لئلا يكون الطلبة هم الضحية.. وابتداء، نحن بحاجة لقرار جريء بحل مجلس التعليم العالي بصيغته الحالية، لاسيما بعد أن أثبت فشله وتواضع فاعليته وغياب التجانس بين تركيبته.. فنحن بحاجة لمجلس متمك�’ن.. متفر�’غ.. لا مكان فيه للمجاملات ولا لتضارب المصالح.. مجلس تعليم لا يحكم قبضته على الجامعات الخاصة فحسب، بل يُعمِل رقابته على جامعة البحرين ومعهد البحرين للتدريب وجامعة بولتكنيك ومعهد البحرين للدراسات المصرفية وجامعة الخليج العربي وكل الجهات المعنية بالتعليم العالي الذي فقد بوصلته وأهليته.. 
ولا تبدو فكرة ”تأميم الجامعات” وإدارتها لحين تعديل أوضاعها فكرة سيئة.. فمستقبل طلبة عدة بات على المحك.. ولا يجوز تكتيف الأيدي والانتظار أكثر..