للوطن :

”كنت أستيقظ صباحاً فأجد نفسي ملقى في إحدى الخربات المهجورة كالكلب الضال.. وكثيراً ما كنت أخاطب ربي وأقول لماذا لم تأخذ روحي بعد، ففكرة الحياة ليوم آخر مع هذا الصراع المر�’ كانت تقطع أوصالي”.. الكلمات أعلاه تخللت احتفال عارف” اسم حركي” بمرور 10 سنوات على إقلاعه عن التعاطي الذي خطف حياته منذ أن كان مراهقاً..

تعرفت بعارف عندما أجريت معه مقابلة لحلقة السجناء، ووجدت فيه أنموذجاً رائعاً لترجمة رسالة الحلقة: رجل دخل السجن 13 مرة بسبب إدمانه، ثم قرر أن يتمرد على عبودية المخدر فتاب وغير حياته كلها، وهو اليوم موظف منتج في المجتمع، ورب أسرة، وناشط في مجال مساعدة المدمنين، وتستعين به السجون ومراكز التأهيل والعيادات ليساعد المدمنين على تخطي الإدمان..

قبل أيام، جاءني هاتف منه يدعوني لحفله ذاك في جمعية رعاية الطفولة ولبيت الدعوة من كل بد.. هناك كانت أسرته، أمه الفخورة وأخواته الممتنات، أطباؤه وأصدقاؤه وكثيرٌ من المدمنين المتعافين الذين ألهمهم وساعدهم.. جاؤوا زُمراً ليباركوا له انتصاره الكبير على المخدر.. وعلى نفسه.. وتوالت الكلمات تُثني عليه وتستحضر مآثره ومناقبه. وفي الحفل، شاغب وجه أحد من اعتلوا المنصة ذاكرتي، ولم أصدق عينيَ: إن أزلنا النظارة، وأضفنا بعض الشعر وبعض أرطال.. وعدنا بآلة الزمن 13 عاماً للوراء.. نعم.. إنه هو..

كنت حينها في المرحلة الثانوية، وبدأت للتو مشواري الصحفي وقصدت المستشفى الأميركي بالمنامة لأكتب عن مجموعة المدمن المجهول – المغمورة آنذاك- لما سمعت بهم وأثار الموضـوع اهتمامي.. حضرت اجتماعهم ونقلت يومها قصة شابين: أحدهما مدمن هزيل من عائلة فقيرة استقبله إدمان الغراء وهو ابن 10 سنين، وتطور لإدمان المخدرات على أنواعها.. أما الثاني: فابن عائلة ثرية ولكن قسوة والده وحسه المرهف جعلاه أضعف من أن يقاوم الرغبة في مخدر يخرجه من عزلته عن العالم..

تحدثا مطولا عن انتكاساتهما ومحاولاتهما المتكررة للإقلاع وتعاطفت معهما مليا، في طريقي للخارج التفتُ للممرضة التي كانت بمحاذاتي ”هل تعتقدين أنهما سيتوبان حقاً” سألتها، فهزت رأسها بالنفي وهمست: إنهم يحاولون ولكنهم يفشلون.. بعدها بعامين سألت الممرضة ذاتها عن الشاب هزيل البنية فقالت لي بأنه توفي بجرعة زائدة، ووفرت على نفسي يومها عناء السؤال عن زميله لأني افترضت – ضمنا- الإجابة نفسها..!!

لم أصدق عينيَ وأنا أراه بعد كل تلك السنين: حياً قوياً.. مفعما بالحياة. في ختام الحفل أشار عارف لصاحبنا قبل أن يضمه بقوة ويقول: أدين بكل شيء لهذا الرجل. معلمي وموجهي في رحلة التعافي.. لقد وقف معي في أحلك الأوقات وأصعبها: عندما اشتقت للتعاطي، وعندما قررت الانتحار..عندما يئست وجلدتني نظرة الناس.. كان لي الأب والصديق وعلمني أن أحب الحياة وأحب نفسي.. لولاه لما كنت حياً لليوم.. كثيرٌ من الحاضرين قالوا المثل في عارف نفسه. لفتني احدهم عندما قال: كنت قد خرجت للتو من المصحة معتزماً الذهاب للتعاطي، ولكن عارف تلقفني ولم أتعاطَ منذ عامين ولعارف الفضل بعد الله..

لاحقاً، عندما أراد عارف أن يشكرني على تشريف حفله رفضت لأنني – واقعاً- من ناله الشرف بالمشاركة في حدث جليل كهذا.. فعارف، الذي هو امتداد لمعلمه، وهؤلاء المتعافون الذين هم امتداد لعارف.. 
ثبتك الله يا عارف ووفقك، أنت وأمثالك، فأنتم أساطير حية.. دلائل ناطقة.. أن الإنسان – ليس قادرا على تغيير مصيره فحسب- بل وتغيير مصائر الآخرين أيضا..