للقلب والروح :

كل البشر الذين ترونهم مثقلون بذكريات الماضي ، بندوب تاريخهم الذي لم يكتمل، تلك الندوب والذكريات التي تجعلهم كمن يسكنون أرضا بركانية : متأهبين دائماً للهزات.. متحفزين دوماً تأهباً للانفجارات. عاجزين عن الاستمتاع بالحياة كيفما هي ..

تساءلت يوماً : 
كيف يستطيع الطفل أن يصرخ ألماً ويجرح وجنتيه بالدموع ثم يعود ـ في اللحظة ذاتها ـ ليفرش ابتسامة تسع الكون وتقبض على كل معاجم الفرح ؟! حقاً : كيف يبكي الأطفال بهذه الحرقة ؛ حتى ليخيل لك أن الحياة قد شظفت بهم وأن لصوص الفرح تسربوا لآذانهم واغتالوا أحلامهم وحرقوا مدنهم.. ثم يباغتونك بضحكة من لم يعرف الدمع في حياته؛ ويرمقونك بطرف ملاك لم يجرد من أجنحة الجنة بعد.. !!
ألأنهم ، ببساطة، بلا ذاكرة..؟! 
بلا ذاكرة تعذبهم وتشقيهم.. وتلح عليهم لكي لا يركنوا لشيء ولا يثقوا بتقلبات الحياة .. ذاكرة تسر لهم أن قوس القزح يتلاشى سريعاً .. وأن من يضحكون معهم قد يضحكون عليك.. وأن الورود تذبل وتموت.. 
ربما؛ فما من شيء أشقى البشرية بقدر ذاكرتها الحمقاء الحديدية..!! فالجلد ليس وحده من يتجعد مع تقدم العمر لأنه يفقد القدرة على التجدد والتألق .. فالنفس البشرية – أيضاً – تتجعد وتترهل فاقدةً القدرة على الحماس والفرح والانطلاق والحب والصفح..
في القرن التاسع عشر ظهر فرويد بنظرية غيرت وجهة علم النفس.. بقوله إن للمرء منا عقلين :
ظاهر وباطن.. والعقل البشري بذلك أشبه ما يكون بجبل الجليد : رأس مدبب يطل من فوق سطح المياه القطبية؛ فيما يتوارى الجزء الأكبر منغمساً تحت الماء متلاعباً بأمزجتنا وقراراتنا “وهو ما يسمى باللاوعي أيضا”.. ذاك اللاوعي هو عبارة عن كوة تراكمات لتجارب وآلام وجروح وصدمات وذكريات وخيال. نعم خيال..
فالذكريات غالباً ما تخالجها الخرافة لأن العقل البشري الخلاق قلما يحتفظ بالذكرى كما هي ؛ لذا يعملق التجارب ويضفي على صغائرها جلالاً مع مرور الوقت .. لهذا تتذكر المكان الذي أحببت على أنه أجمل مما هو .. وتبالغ في تقدير حبك الأول .. وتستحضر صورة الحبيبة التي غدت على أنها كانت الأجمل والأكمل .. وتخطئ في تقدير الآلام والأوجاع التي مّرت وعبّرت..!!
هو الماضي إذن.. ذاك الوزر الذي نرتديه أو يرتدينا .. يُطبق على أرواحنا كقيد من حديد .. نسمعه داخل الصمت ونراه في الفراغ.. نحمله معنا في أزقة الحياة ونسمح له أن يدير دفة يومنا وغدنا ليحرمنا الفرح والاندفاع والنشوة والعفوية وكل ما يلون الحياة من مفردات .. 
مهزلة هي نعيشها دونما قرار .. لا خلاص منها إلا بالغطس في ماء الصفح المثلج .. والتطهر من أدران الذكريات التي تعيق الحياة .. ربما لا يكون محو الذكريات خياراً ولكن رصها في خزانة الماضي خيار حصيف .. تماماً كما أن العيش فيه خيار أحمق..!! 
السعادة ملك مشاع .. والمرء منا يحتاج كل حين أن يطارح عقله ويطلق سراح بعض الهموم التي تثقل حركته.. لذا.. فاسترض نفسك وروض ذاكرتك .. مزق أوراق الماضي بكل ما حمله من فشل وخيبات وأقبل على الغد إقبال الرضيع.. فأجمل ما في الحياة؛ هو حب الحياة كما قال أنيس منصور..
رحيق الكلام :
قف؛ أطلق رجليك للريح .. وأعط ظهرك لكل ما يطوق بهاء روحك وينكس هامتك ..