للقلب والروح :

في أحد المعارض استوقفتني لوحات تفوح منها رائحة الألم، كانت لوحات مخضبة باللونين الأسود والأحمر وجوهها مشوهة قاسية المعالم والقسمات أقرب ما تكون لنداء استغاثة منها للعمل الفني المحترف.
لوحات.. لا تحتاج لأن تكون محللاً نفسياً لتفهم الصراع الإنساني الذي يتنفس من خلالها.. سألت.. فقيل لي إن رسامها هو سليل أثرى العائلات وأهمها فلما قابلته لاحقاً في ردهات المعرض وتبادلنا التحية والمجاملات بادرته قائلةً..
سأخمن: طفل حساس.. عائلة جامدة، إحساس طاغ بالضجر تتخلله نوبات شعور جارحة بأن الحياة بلا معنى ولا هدف..!!
وافقني بعينه التي انكسرت في نظرة خجولة. بالطبع أنبت نفسي بعدها على رعونة صراحتي؛ لاسيما بعد أن سمعت أن صاحبنا حاول الانتحار مراراً ولم يفلح..!!

هذا الرسام ليس بنموذج خاص – صارخ ربما ولكنه ليس خاصًا- فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن عدد من يقدمون على الانتحار سنوياً يتراوح بين 10-20 مليون شخص يفلح عدد ضئيل منهم في ذلك. وتتمركز هذه النسبة في دول تعيش الرقي الاجتماعي والازدهار الاقتصادي كالدول الاسكندينافية وسويسرا وألمانيا واليابان بينما تقع أمريكا والدول الشرقية واللاتينية في المرتبات الدنيا..وتعزو الدراسات ذلك إلى متانة العلاقة الأسرية في تلك المجتمعات بالشكل الذي يحصنهم من هزات الاكتئاب الحادة المؤدية للانتحار.. وتضع تلك الدراسات فقدان العلاقات الحميمة في المرتبة الأولى كسبب للانهيار يليها الإفلاس والبطالة وغيرها.

في مجتمعاتنا قد لا يصل الأمر للانتحار لاعتبارات عدة؛ ولكن حالات الاكتئاب الحاد شديدة الشيوع لدى الأشخاص المنحدرين من أسر مفككة.. وبالأسر المفككة لا نعني طبعاً الأسر التي انفصمت عرى الزواج فيها؛ فكثير من المتزوجين يعيشون في أسر أكثر اضطرابا من الأسر المطلقة.

وأحياناً – أحياناً أقول- تكون بصمات الأجواء المشحونة في بعض الأسر أبشع تأثيراً على نفوس أفرادها من العيش في ظل الحرمان من وجود أحد الوالدين !!
فلا شيء يخطف الحياة من الحياة كالعيش في عائلة متنافرة لا تسودها المودة؛ ولا شيء يعطر العمر كالعائلة السعيدة..الأسر الدافئة تقولب في كنفاتها شخصيات متوازنة تمتلك مهارات اجتماعية جيدة.. بينما تزج الأسر القاسية والمهملة بالأبناء للحياة بنفسية هشة سوداوية تجنح للعدوانية أو للضعف.. ويطال ذلك بشكل خاص الأبناء الذين ولدوا – ابتداءً -بنفسيات حساسة شفافة.. 

نقول اليوم ذلك لنذكر الآباء الذين يتقاتلون على توفير أفضل مسكن.. وأفضل مدرسة وأفضل سيارة ويصرفون سني العمر في الدوران في فلك المادة؛ أن لديهم ما هو أهم: فالابن لن يذكر حقاً الملابس الباهظة التي اشتريتها له وهو في العاشرة؛ بل سيذكر المرة التي أخذته معك في جوله وضممته وجالسته ومازحته.. لن تذكر المراهقة -في الغد- أي سيارة ركبتها.. بل ستذكر كيف تعاملت مع اضطراباتها وكيف ساعدتها على تخطي مشاكلها التافهة.. 

لا أشكك في حب أحد لأسرته وبنيه ولكن الحياة المستعرة اليوم تكاد تنسينا ما هو مهم حقاً.. العائلة.. التي هي مهد ومنبع الطمأنينة والأمان..

رحيق الكلام:
ـــــــــــــــــــــ
تريدون السعادة ؟! تريدون أن تؤمنوا مستقبل أبنائكم..؟!
لا تبحثوا بعيداً ولا تفكروا في المال والعقار.. إنها بين أيديكم.