للقلب والروح : بعد أن بيعت اللوحة بـ 75 مليونا في منتصف الثمانينات؛ يقر مشرفو دار سوثبيز للمزادات أنهم ما عادوا قادرين على أن يضعوا عليها سعرا يوفيها حقها.. إنها لوحة أزهار السوسن التي قايض فان كوخ بها الصيدلي مقابل دواء سعال لشقيقه؛ وقيل إن الصيدلي رماها لاحقا في قن الدجاج لما سخرت منها والدته..!!
المفارقة في فن كوخ أن السبب الذي يجعل المعاصرين يرون فيه تفردا عظيما هو ذاته السبب الذي جعل لوحاته محل تهكم وسخرية في حياته.. فكوخ عاش في عصر يقدس الناس فيه جماليات الصورة وأبهتها وفخامتها؛ أما كوخ فكان مسحورا بتفاصيل الصور اليومية على بساطتها؛ لذا كان يقبض على مآثر الجمال في اللحظات العابرة.. تمجيد كوخ للتفاصيل العادية هو ما يغوياليوم مخيلة المبدعين وهو – ذاته- ما جعل لوحاته تكسد في حياته إذ كان بالكاد يقايضها بالأطعمة والخدمات!! قدرة كوخ على اقتناص الجمال النابت في كل شيء مهارة لا نحتاج لأكثر منها اليوم لنصبغ حياتنا بالسعادة.. كثيرون بيننا يرون الحياة رتيبةً حد الضجر وهامدةً حد الجمود لافتقادها لأي سحر ووهج محسوس.. يرجئ المحللون هوس الناس بتفاصيل حياة المشاهير وأخبارهم– غير المهمة إجمالا- لكونها محاولة تقمص/ اقتناص نظرات من الحياة البراقة والعالم الساحر الذي لم يطأوه.. رغم أن حياة كل منا مليئة, ولكننا لم نتعلم إلا التركيز على النصف الفارغ من الكأس.. لقد نمونا بقدرة نافذة على تضخيم النواقص والسلبيات – في حياتنا وذواتنا- وهو ما يولد ألما دفيناًوعجزا عن الاستمتاع بالحياة.. فنحن من سلالة مجتمعات تربي أبناءها على كبح الألم؛ وتجاهل التعبير عن المشاعر؛ وهو ما يحولها – المشاعر- لاحقاً لطاقة غضب موجه للذات والآخر.. هذا الغضب الذي يستوطن النفس يحجبها عن رؤية متع اللحظات العابرة وتحسس مواطن البهجة في الحياة: ألق جلسة الأصدقاء.. غوايةُ طبق الآيسكريم المزخرف بالفستق.. عذوبة ضحكة طفل.. جرأة وكز ملح البحر على مسامات الجسد.. رائحة الخبر الطازج.. مباغتة النسمة الباردة؛ وكل ملذات الحياة العابرة؛ التافهة أحياناً التي تمر فلا تستوقفنا حتى إن جاءت لحظة الحرمان التي تحجزنا عن هذه المتع- لمرض أو فراق أو عجز – يخيل للمرء منا أن تلك اللحظات الصغيرة كانت هبات نادرة لم نقدرها حق قدرها. عدم إحساسنا بجمال الحياة؛ وانشغالنا بما لا نملك عن ما نملك.. خطيئة ورثناها ونورثها للأجيال الجديدة من خلال التربية العقيمة: نرضعهم التعاسة ونجبرهم على استنشاق توابل الحياة قبل عطورها.. ونرسخ في مخيلتهم الثاوية أن رأي الناس فيهم هو مقياس فلاحهم.. ونرسم لهم أهدافا مبالغا فيها لا تتناسب وقدراتهم .. نعلمهم ان يحتفظوا بأخطائهم ويضخموها… نعلمهم أن تدليل النفس أنانية وحب الذات ترف .. وان الضحك يستدعي الاستعاذة.. نعلمهم أن للجمال قالبا وان السعادة هي في الاستحواذ والتملك.. نعلمهم التركيز على كل ما هو سلبي وإن قل�’؛ وإغفال النعم وإن كثرت.. نعلمهم أن خيانة الواقع بالحلم حماقة.. وحماقة كبرى أيضا .. 
رحيق الكلام:
نحتاج حقاً أن نتعلم كيف نحيا.. كيف نطلق أشرعتنا لنتمتع بجمال التفاصيل.. فالسعادة ملك مشاع – فقط – لمن يعرف كيف يقرأها.