:للوطن

بينما كنت أقلب القنوات التلفزيونية المليئة بالثرثرة والرقص والسماجة؛ وقع نظري على فيلم كاوبوي مدبلج بالإيرانية؛ وجدت فيه كلينت اليستوود- الممثل الأمريكي الشهير- يقفز من القطار وهو ينادي “يا أبا الفزل الأباس’’ في إشارة لأبي الفضل العباس على ما هو ظاهر.. ورغم أنني لم أفهم حقاً ما يقال؛ إلا أني وجدت في رؤية رعاة البقر الأميركان وهم يتحدثون بالإيرانية ويسمون ويحمدون الله، طرافة تستحق المتابعة!!
صورة اليستوود “الإيراني’’ ذاك مازالت قابعة في ذاكرتي.. أستحضرها بابتسامة تنبسط معها أساريري وأنا أرى “الاستيوودات’’ المدبلجة في المشهد العام.. ألسنتهم وطنية إسلامية عقلانية وقلوبهم طائفية قبلية.. يخال الواحد منهم إنه لو أمعن في رجم الطائفية ولعنها فإنه سيغسل ثوبه المنجسة بها من شبهتها.. ينتقد التمييز والتشدد وهو يجري في عروقه مجرى الدم في الوريد.. لذا فإنه لا يتحدث ولا يخط حرفاً إلا وفاحت رائحة الطائفية بين جنباته!!
المفارقة العجيبة أن الجميع اليوم.. ونعني الجميع.. صار يقذف الطائفية كما يُقذف الشيطان الأكبر صبيحة العيد ويلومها على سوء الحال والمآل..والكل يتحدث بوجل ونفور عنها.. فإن كنا جميعاً متفقين على رفض الطائفية وتسقيط الطائفيين.. فمن هو الطائفي بيننا إذن؟! 
من الذي يمارس الطائفية ويزرعها وينفثها سموماً تسم أبداننا وتخلط أوراقنا كل يوم؟!
إن حالة الإنكار التي نعيشها اليوم هي جزء من الازدواجية النفسية التي جُبلت عليها النفس العربية ولم تر عنها محيصاً.. الازدواجية التي عشناها منذ أن اعتنقنا تعاليم الإسلام وبقينا متشبثين بعصبية الجاهلية وعنجهيتها. في وصفه لهارون الرشيد يقول أحمد أمين “ كان يصلي في اليوم مئة ركعة؛ وكان أغزر الناس دموعا وقت الموعظة، وكانت الدموع تخضل لحيته إن ما ذكر الله.. ويسفك الدماء لشيء لا يستحق السفك!!’’
هذه الخصوصية النافرة التي عشناها على مر التاريخ مازلت لصيقة بنا لليوم.. نقول غير ما نضمر.. ونفعل ما ننهى عنه دون خجل.. ولو كنا نملك الشجاعة لنجاهر بما في أنفسنا من علل – لربما- سطع عليها النور وطهرها.. ولكنا نفضل دوماً أن ندفن رؤوسنا حيث العتمة والظلام؛ حيث البيئة الأمثل لنمو الفطريات والأمراض..
والجدل حول المسؤول عن تفاقم هذا الوضع اليوم أشبه بالدوران في فلك لغز البيضة والدجاجة.. والمخرج السهل لها هو القول إن أيدياً عدة مخضبةٌ بآثام هذه الفتنة.. ولا غرو أن مسؤولية الوعاظ ورجال الدين أكبر.. أولئك الذين صلحت الدنيا في عهود مضت بصلاحهم؛ وما أنكسها إلا فسادهم.. ومثلهم الساسة الذين لعبوا بالناس حتى أفقدوهم صوابهم.. 
إن فتيل الفتنة في هذه الأمة قد اشتعل وليس منا من يعلم ماذا يخبئ الغد.. كل ما نعلمه هو أننا كأفراد مسؤولون عن مقاضاة نفوسنا على ما فيها من طائفية واجتثاث الرياء والازدواجية من جنباتها.. فكلنا مسؤولون بدرجة ما؛ وإن أنكرنا ذلك.