للوطن :

من المواقف الجليلة التي تختزنها الذاكرة لجلالة الملك؛ أنه لما تيقن من أن بعض القضاة الشرعيين قد طغوا في البلاد وآذوا العباد؛ قام – في خطوة مفاجئة- بعزل تسعة منهم دفعة واحدة من مناصبهم في خطوة أثلجت صدور الجماهير ولجمت جماح باقي القضاة.. جاء ذلك بعد أن تعالت الأصوات عبر الصحافة لتطالب بمحاسبتهم على أفعالهم.. وقد كان لمحدثتكم شرف أن تكون من صفوف من ساهموا في الدفع باتجاه هذه الخطوة، عبر نشر سلسلة تحقيقات مطو�’لة تروي تفاصيل ما يحدث في أروقة المحاكم وتكشف غرائب الأحكام، وما وراء الأحكام.. بيد أننا جميعاً، كصحافيين ونشطاء ومحامين، لم نتوقع للأمانة أن نستيقظ صبيحة يوم ونجد أن الكابوس قد انقشع، هكذا في ظرف يوم واحد، ولله الحمد والمنة على ذلك..
ليس هذا موضوعنا اليوم على أية حال.. بل هو أن الوضع القانوني لهؤلاء القضاة المعزولين مازال غامضاً .. فرغم مرور زهاء الست سنوات على توقيفهم عن العمل إلا أنهم لا يزالون يتقاضون، ومنذ 6 سنوات، رواتبهم وعلاواتهم كاملة مكم�’لة.. كما أنهم مازالوا يحظون بالزيادات السنوية والامتيازات ذاتها التي تُمنح للقضاة العاملين؛ كما وأنهم يصرِ�’حون للصحف ويشاركون في المجالس والندوات باعتبارهم قضاة!! ويرفضون مليا الإشارة لهم بمسمى قاضٍ معزول أو قاضٍ سابق لعدم وجود وثيقة تثبتها.. وبذلك فهم لم يخسروا شيئاً، اللهم إلا مشقة العمل وضغطه..!!

عندما سألني الموقر أحمد بوجيري، رئيس النيابة الذي تولى التحقيق معي في قضيتي مع المجلس الأعلى للقضاء، عن تغافلي لذكر حقيقة أن القاضي الذي راود السيد عن نفسها ”والذي عرضتُ أمره ضمن قضايا أخرى، فما استوقف المجلس إلا هاته القضية!!” هو أحد القضاة التسعة المعزولين؟! أجبته أن الصحف تُعاتَب إن هي استخدمت هذا المسمى؛ فإن أضفنا لذلك حقيقة أن هذا القاضي – وغيره- لم يحاكموا على تلك الأفعال ولم يجر�’دوا – بعد- من امتيازاتهم ولم يُعد أحد – لآلاف المتضررات والمتضررين عبر السنوات حقوقهم- ولم تُصو�’ب الظروف التي مهدت درب التجاوزات للسلف لنتأكد أن الخلف لن يكررها؛ فما سيغير ذكر ذلك إذن!! 

المُراد.. حان الوقت لحسم الوضع القانوني لهؤلاء لأن الرسالة التي يجب أن تصل لسواهم من القضاة يجب أن تكون واضحة: ستجر�’دون من كل شيء إن ما سو�’لت لكم أنفسكم استغلال مواقعكم في التلاعب بالمصائر والبشر؛ والمرسوم بقانون رقم 42 لسنة 2002 بهذا الشأن واضح..فوفقاً للمادة 36 فإن مساءلة رجال القضاء هو من اختصاص مجلس تأديب يصدر بتشكيله قرار من المجلس الأعلى للقضاء.. ويمكن للمجلس تشكيل مجلس التأديب ذاك ومباشرة التحقيق معهم لحسم أمرهم نهائياً.. ولهم تجاوز هذه الخطوة باعتبار أن القرار الحصيف السامي جاء من عاهل البلاد – الذي هو أيضا- رئيس المجلس الأعلى للقضاء.. 

إلى ذلك نذكر بالمناسبة المجلس الأعلى للقضاء، أنه بحاجة لتفعيل دوره الرقابي في مراقبة القضاة ومحاكمتهم وفق الفصل الثالث من المرسوم المذكور أعلاه، وليتخذوا النيابة العامة شريكهم اللصيق، في ذلك قدوة ويهتدوا بمهنيتها في العمل.. فخلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط شكلت النيابة مجلس تأديب عدة مرات، وعزلت رسمياً 6 وكلاء نيابة، رغم محدودية الطاقم والحاجة لهم، لم�’ا ثبتت عليهم تجاوزات هي شذرات من تجاوزات قضاتنا – في رسالة صارمة- للباقين.

أن المجلس الأعلى للقضاء يجب أن يفعِ�’ل أدواته – هذا هو كل ما نقول- فالقضاء لا يصلح بعزل 9 بقرار عالٍ، بل بتشديد الرقابة والمحاسبة .. علماً بأن الشكاوى التي تصل للمجلس كثيرة – ويومية- فقط تنتظر من يتعاطى معها بجدية..