للوطن :

المأساة الإنسانية التي عرضناها بالأمس ليست مأساة شخصية كما يخال البعض.. هي مأساة مئات العائلات البحرينية التي صارت محبوسة في جلدها ومخنوقة بالفقر والعوز وقلة الحيلة. 
في قديم الزمان.. كانت مياهنا وجزرنا المطوقة بالفشوت الغنية بالأسماك تفيض بالخير.. كنا في البحرين نجفف الأسماك و«نترفس» في الصغير منها لوفرتها.. الآن؛ جف ضرع بحارنا فما عادت تسد الرمق.. تكالبت على ثروتنا البحرية الجزر العملاقة وعمليات الردم والدفن المتواصلة.. وجاء تمليك السواحل للقلة والصفوة وتدميرها لعيون الحوائط الأسمنتية بالوبال على الصيادين وعائلاتهم.. ثم جاء ترسيم الحدود بين البحرين وقطر ليفقدهم 13 موقعاً من أغنى مصائد الأسماك.. وكل ما بقي لا يتجاوز 8 هيرات مستنزفة من كثافة الصيد فيها على مدار العام حتى بات الصياد يجوب البحر بالساعات والأيام ولا يعود إلا بـ «خفي حنين»!

في الأيام الماضية قيل ما قيل عن وفاة محمد حيان الذي قضت عليه ضربة خفر السواحل القطرية لما دخل الحدود الإقليمية خطأً.. أقسى ما قيل هو تحميله ذنب ما جرى له والإلماح بأن سيكون عبرة لأمثاله من الصيادين الذين «يتعدون» حدود دولتهم عامدين جائرين كما يروج هؤلاء، وتلك كلمة حق لا يراد بها سوى الباطل، فالحق أن كثيراً من صيادينا يتسللون للمياه القطرية عامدين.. ولكنهم لا يفعلون ذلك استهانة بالقانون ولا تعدياً أو من قبيل الاستخفاف بأحد.. هم يفعلونه تحت قرع مطرقة الجوع والفاقة. فعندما تقترض ثمن وقود لمركبك ولا تعرف بأي وجه تعود لعيالك بعد يومين في البحر بلا رزق، فغالباً ما ستحدثك نفسك بالمجازفة لعيون هذا الرزق.. تجازف مضطراً لا مختاراً.. فالجوع ليس بكافر فحسب. بل هو أرعن وأحمق وأجذب.. صيادو البحرين – في تخطيهم للحدود – يعرفون ما هم مقبلون عليه ويعرفون بأنهم سيجازون بقسوة – لم تصل للموت من قبل – ولكنهم لطالما قبلوا بقسوة متناهية.. تعرضوا للحبس والغرامات التي تصل إلى 8 آلاف دينار.. «طراريدهم» تعرضت للمصادرة والحجز لمدد تتراوح بين 5 و9 أشهر.. أيعرف أحدكم ماذا تعني مصادرة مركب أو حجزه لهذه المدد الطويلة بالنسبة لصياد؟

لا تعرفون – صدقوني – وإن ظننتم..

فهؤلاء الصيادون المتعففون دراويش، وينحدرون من عائلات تعيش تحت خط الفقر.. وهم لا يعملون في هذه المهنة الشاقة وزهيدة الدخل ترفاً.. إنهم يعملون فيها لأنهم لا يملكون أي خيار آخر.

خذوا رضا علي (27 عاماً)، وهو أحد الخمسة الذين كانوا على متن المركب المنكوب الواقعة، كمثال شاخص.. شاب جامعي خريج إدارة أعمال من الهند خرج ينشد العمل صياداً في رحلات مضنية لن يخرج منها إلا بدنانير معدودة.. ولمَ؟! هل وجد عملاً في بنك أو ووزارة ورفضه؟!

محمد – الفقيد – نفسه.. كان موظفاً في وزارة وأقيل بعد إصابته بإصابة عمل ومنح 135 ديناراً راتباً تقاعدياً.. كان أحد صيادي خليج توبلي حتى شهر واحد مضى، وكلكم يعي ما نال خليج توبلي من تدمير، وهو ما دفعه إلى الاستدانة وبذل الغالي والنفيس لشراء مركب ينطلق به عن هذه المضايق.

أفَيُلام مثل هؤلاء أن طاردوا رزقهم في البحر، وإلى متى سنظل نخلق – نحن بأيدينا – الضحية ثم نحاسبها؟!

يتبع..