للقلب والروح :

اعتصم بركن من السجن واستغرق في نحيب من لا يرجو الرحمة .. مرَ السجان فرثى لحال هذا الشاب الهزيل الذي سيُساق في غده للمقصلة.. لم يكن هو السجين الوحيد الذي سيٌعدم مع انبلاج الفجر؛ لكن السجان تعاطف معه لعلمه ببراءته .. ففتح الباب وخاطبه بهيبة من يملك المفاتيح :
اسمع يا هذا ـ قال له ناظرا في عينيه ـ هذه هي آخر لياليك على الأرض، وسأقدم لك عرضاً كريماً .. صعلوك من السجناء توفي الليلة .. إن استطعت الهرب قبل الفجر فسأبدله بك؛ وأقول : إن الروع قد سبق المقصلة في خطف روحك.!! 
دبت الحياة في جسد الشاب الذي عقدت الصدمة لسانه؛ أما السجان فقد التف وصفق الباب وراءه بعنف ـ خجلاَ ـ مما أظهره من رقة وعطف..!!
حينها .. تزحزحت صخرة الأحزان الجاثمة على روح الشاب فركض إلى شباك السجن الفولاذي يهزه بقوة من ينازع للحياة.. فلما يئس من خلع القضبان طفق يحاول تحريك لبنات الحائط العتيق وطرقها بمقبضيه،

فكر في حفر نفق إلى خارج السجن فأخذ ينبش التراب بلا هوادة !! 
ساعات كأنها الدهر مرت .. فلما تسللت خيوط الشمس لعتمة الليل دخل السجانون ليسوقوا المحكومين إلى مصيرهم المظلم؛ فلما فتح السجان الزنزانة على الشاب وجده متكوراً وقد دفن رأسه بين ساعديه .. لم يصدق السجان عينيه ”لِمَ لم�’ تهرب” صاح فيه السجان .. ” جربت كل شيء ـ رد وهو يهز رأسه بذُ�’لٍ�’ المستسلم ـ حاولت كل شيء.. ولم أفلح!!
فصرخ فيه السجان غضبان أسفاً : .. لقد تركت لك الباب مفتوحاً!!! 
لا أذكر متى ومِمَ�’ن سمعت هذه القصة.. لكنها حفرت في ذاكرتي كالوشم الذي لا يزول. ففي الحياة كثيراً ما نُشقي النفس بالبحث عن حلول منهجية ومخارج منطقية لمعضلاتنا ومشاكلنا.. نشتكي للناس؛ للمسئولين والأقرباء من مشاكلنا مع ابن أو أخ أو مدير .. شريك أو صديق .. ونستبعد ـ تلقائيا ـ خيار أن نذهب إليه لنشكوه من نفسه.. نعبر للآخرين ـ غير المعنيين مباشرة ـ عن عمق الضيق والجرح الغائر الذي سببه لنا هذا أو ذاك بحروبه المعلنة والباردة أو بإهماله أو باستخفافه بمشاعرنا، لكنا لا نواجه ـ المعني ـ بالأمر وإن فعلنا فلا نواجهه بالصراحة والوضوح نفسه.
يحب المرء فلا يجرؤ على مواجهة من يحب بعواطفه؛ يفضل الصمت في انتظار لحظة مناسبة قد لا تأتي.. ينكفئ على نفسه خاشية الرفض .. رغم أن ألم الرفض كنزع الضمادة، أما ألم الترقب ولوعة الانتظار فبمرارة الغربة ..!!
ثمة مشكلات تأتي لتبقى لا يمكن اختصارها ولا الهروب منها.. تأتي لتسكن في الحلق كغصة أبدية تأبى أن تزول : فالإعاقة، المرض؛ فقدان عزيز .. مشكلات تجتاح حياتك كالجراد؛ وتشعر معها بأن شجرة صبار نبتت بين شفتيك فلا يزيدك الحديث فيها إلا جروحا.. لكن طيف المشكلات الباقية كلها تولد حبلى بحلولها.. وقد يكون حلها أبسط مما تتوقع .. وأقرب مما تتمنى .. أسهل مما تتخيل. 
لا أدعي ها هنا أن لكل عقدة حلالا ـ كما تقترح الأمثال الشعبية الموغلة في تفاؤلها وسطحيتها ربما ـ بل إن كثيراً من الحلول شاخصة أمامنا ونعجز عن رؤيتها بسبب تكويننا العاطفي الخديج على الأرجح. 
رحيق الكلام :
«عندما تبحث عن نظارتك الضائعة .. فمن الأفضل أن تبدأ بأعلى رأسك». 
لامرتين شاعر فرنسا العظيم.