اجتماعية ناقدة : المشهد الذي قبضته ذاكرتنا يوم أمس الأول، مشهد يشبه البحرين وحدها ولا يُرى له سمي في جُل العواصم الإسلامية.. كانت أضواء كنيسة القلب المقدس- ليلة التاسع من عاشوراء- تتراقص وتتلألأ على الميمنة احتفالا بمولد السيد المسيح.. وعلى بعد أمتار كانت أعلام الحسين تخفق بلونيها الأسود والأخضر على مأتمي الساكن وأبو عقلين، والشوارع مزهوة بلافتات تحتضن أقوال العظماء والمستشرقين عن ثورة الحسين..
آلاف الجاليات الآسيوية كانت تجوب الطرقات متأنقةً – كما لم تتأنق طول العام- تتبادل التهاني وتحمل الهدايا والزهور على مرمى نظر آلاف المواطنين الذين اتشحوا بالسواد احتراما لهيبة هذه المناسبة..
كثير من الآسيويين استخدموا موائد الحسين الممتدة بطول الطرقات للتزود بأطعمة لموائد ”الكريسماس”. وكان الشباب يحثونهم على ذلك بزيادة حصتهم مما يوزع من حلويات وأطعمة.. ولفتني أن بعض المارين كانوا يصرخون ”ميري كريسماس” لتحية بعض الوافدين العابرين، ثم يشيحون بأوجههم على اليم الآخر ويرددون ”مأجورين” لباقي العابرين..!!
نعم، هذه هي البحرين التي نعرفها.. وهذا معدن أهلها الطيبين..
جماعات لا يستهان بها من الأخوة السنة كانوا حاضرين هناك بقوة للمشاركة في الحدث.. شباب جاءوا من المحرق وأم الحصم والقضيبية مع أصدقائهم وجيرانهم الشيعة ”ليمشطوا” الطرقات ذهابا وإيابا ويتذوقوا طعم الأجواء الاحتفالية، التي تجمع دروب الأهل والأصدقاء الذين تفرقهم مشاغل الحياة طوال العام..
لفتتني في هذا مسنةٌ أتت مع ابنتها وخادمتيها من المحرق وتموضعت في موقع ”استراتيجي” مقابل مسجد مؤمن على كرسيها البلاستيكي، وهناك أمضت ساعات تتصفح الوجوه والمواكب والمشاهد والصور وتتذوق أطايب المأكولات التي تتجدد على الموائد كل حين وتدفع ببعضها لخادمتيها.. ورغم تأخر الوقت إلا أن السيدة كانت قد ضاعت في وهج الحدث فأبت المغادرة رغم إلحاح ابنتها..!!
وسط تلك الجموع اتشح الجميع بالسواد.. بعضهم كان يلبس كنزات تحمل أسماء ماركات عالمية، والآخر كان يلبس ملابس متواضعة.. بعضهم جاء في النقل العام أو ”لفت”، وبعضهم الآخر جاء على متن سيارته الألمانية أو برفقة سواقهم.. كانت ساعات الماس تتلألأ حول معاصم بعض النسوة، فيما اكتفت الباقيات برباط أسود أو أخضر على الرسغ، كل هؤلاء بدوا في لحظة من الزمن متشابهين حد التطابق، بسواد ملابسهم المهيب وابتسامتهم الودود ونظراتهم الدافئة..
****
شيئان طغيا على أحاديث الناس تلك الليلة..
الزيارة التي تفضل بها وزير العدل الشيخ خالد بن علي ووزير الصحة د.فيصل الحمر ومحافظ العاصمة الشيخ حمود بن عبد الله، وهي زيارةٌ كان لها وقع جليل على أفئدة الأهالي، الذين ثمنوا عالياً موقف زوارهم واهتمام القيادة إجمالا برعاية هذا الموسم ودعمه وجدانيا ولوجستيا..
كما وتداول الناس خبر إيقاف أحد الخطباء العراقيين – رسميا- عن الخطابة بعد تعرضه للصحابة.. ورغم الشعبية النسبية لهذا القارئ ومنبر المأتم العريق الذي يعتليه، إلا أن الناس استقبلت الخبر بكثير من الاستحسان.. سيما وأن الجميع يطمح بالنأي بعاشوراء عن المهاترات والاستفزازات وكل ما من شئنه أن يسيء لروح المناسبة أو يمس الوحدة الوطنية..
وماذا أيضاً ؟! نعم، كان من اللافت هذا العام ما أولاه الناس من عناية بالنظافة.. فشخصيات مهمة ورجال أعمال مرموقين كانوا يساهمون في تنظيف المآتم بعد انحسار الزوار.. أما الكشافة والشباب القائمون على التنظيم فقد أبدعوا وتفوقوا على أنفسهم.. ولم يتركوا لعمال البلدية مهاماً لفرط حرصهم على التنظيف والتنظيم..
كانت هناك بعض المظاهر الدخيلة، نعم، ولكنها لم تكن لتبين وسط المشهد العام، الناطق بالتسامح والأخوة والتلاحم الوطني الذي حول هذه الأيام لمناسبة اجتماعية، بقدر ما هي دينية، يشارك فيها الجميع ويحتفي بها الجميع..
وهذه هي – بالفعل- البحرين التي نعرفها وهذا هو.. معدن أهلها الطيبين..