اجتماعية ناقدة:  كان السائق الخليجي يترنح بمركبته حين أوقفته دورية المرور ووجدته بالفعل في حالة سكر بي�’ن.. وضع السائق المخمور عينه في عين الضابط الشاب، ودس�’ يده في جيبه مخرجاً حزمة نقود مخاطبا الضابط: سأدفع الـ500 دينار كغرامة على أية حال – قال- خذها أنت من باب أولى، واتركني لأذهب في طريقي..!!

***********

قبل سنوات مضت، كانت العامة تنظر للضباط برهبة وغير قليل من الحسد.. ابتداءً، كانت تلك المناصب محتكرةً ومتوارثةً بين أبناء عوائل بعينها – ثرية ومتنفذة في الغالب- وكانت أوضاعهم المعيشية تشي بغير قليل من الوفرة والرفاه: يملكون سيارات فخمة بأرقام مميزة (يستلونها من الإدارة العامة للمرور تساوي عند بيعها ”شيء وشويات”)، لهم منازل خاصة من الداخلية ينتظر أقرانهم عقوداً ممتدة ليحصلوا على أشباهها، ناهيك عن النفوذ الذي لا يحده حد�’؛ ففي الحقبة التي نعوذ بالله من عودتها كان بإمكان الواحد منهم اعتقال أي مواطن لو ”لف عليه بسيارته” أو ”رمقه بنظرة ذات مغزى”، ناهيك عن ملاسنته طبعا.. حينئذ كانت كل التسهيلات تقدم لهم – طوعاً أو كرها- وفي كل مكان..

اليوم تبدل الحال، ودوام الحال محال.. فقد فتح الباب بشكل أوسع لدخول طبقات جديدة لسلك الشرطة، وصار هناك ضباط من عائلات متواضعة بل وفقيرة، وذهبت رياح الإصلاح بكثير من صلاحيات العسكر للنيابة، ولم تعد أخطاء وتجاوزات الضباط تؤخذ بخفة، وصار الحزم عنوان التعامل معهم.. حينها، اتضح جلياً أن رواتب الضباط ليست بالارتفاع الذي توهمه الناس؛ فرواتبهم الأساسية تبدأ بـ650 دينارا وتصل – في رتبة نقيب مثلاً- لحوالي ألف دينار، وتجلى للناس أن العز�’ الذي كان يعيشه هؤلاء إما نتاج كونهم – أصلاً- من عائلة موسرة.. أو لأنهم تضخموا من صفقات ما تحت الطاولة ووراء الباب وعبر النافذة التي – ولنكن منصفين- تم الحد منها بشكل كبير الآن.. واتضح كذلك أن طابور انتظار بيت الداخلية بات طويلا كغيره، يزيده طولاً تمسك بعض كبار الضباط بمنازل الوزارة – حتى الرمق الأخير- ما يطيل بطبيعة الحال أمد انتظار غيرهم!!

ولأن الضابط يريد صيانة مظهر اجتماعي معين يفرضه عليه موقعه تراه يكبل نفسه بالديون ويكابد ليظهر بمظهر أكبر من مستواه الحقيقي؛ فيقود سيارة يستهلك قسطها نصف راتبه، ويحرق مدخراته المحدودة على ”تلميع” صورته.. يقول قائل هنا: وما الفرق بينهم وبين سائر موظفي الحكومة؟ كلنا متواضعو الدخل ونتحصل على رواتب لا تكفينا مؤونة الشهر.!! وهذا جدُ صحيح مع فارق مفصلي.. فالموظف العادي – مهندساً كان أم محاسباً أو سواه – يملك دائماً خيار تحسين دخله من خلال العمل الخاص.. كثير منهم يستأجر – بالباطن- سجلات أو يعمل بشكل جانبي في السمسرة أو الاستثمار.. ولكن العمل ”الخاص” للضابط مشكلة وعدم عمله.. مشكلة أيضاً!!

عمله الجانبي مشكلة؛ لأنه – ورغم أن نفوذ الضباط قد تقو�’ض- إلا أنه لازال لهم نفوذ يُخشى أن يسخ�’روه لخدمة أعمالهم الخاصة ولتشبيك مصالحهم مع باقي المستثمرين.. من جهة أخرى، فعدم عمله لتحسين دخله مشكلة أيضا؛ لأنه قد يلجأ حينها لخيار أكثر دراماتيكية لتحسين وضعه.. والعاملون في أقسام تتعاطى مع تجار المخدرات أو الآداب أو حتى المرور لديهم باب مشرع للفساد المؤدي للإفساد..!

بالمناسبة، ربما مازلتم تتساءلون عن نهاية الموقف الذي عرضناه بادئ المقال.. حقيقةً سو�’لت له نفسه قبولها عندما فكر في الشهر الذي انتصف، وحسابه الذي لم يبق فيه إلا 25 ديناراً، وقسط المدارس الذي حل.. ولكنه رغم ذلك رفض الرشوة، ولكن.. إلى متى سيظل هؤلاء يقاومون المغريات وعلى حساب من وماذا؟!

________ 
رحيق الكلام :
حسنوا أوضاعهم.. أو غامروا بانحرافهم!!